الموت والنقد السياسي في
(مواعيد آثمة)
للتونسيّة زهرة الظاهري
د.فاضل عبود التميمي
جامعة ديالى : العراق
انفتحت مجموعة (مواعيد آثمة) منشورات (زخارف) في تونس 2020، للقاصّة التونسيّة زهرة الظاهري على ممارسات الساردة وهي تتقصّى المضمر القابع تحت سطوح العلاقات، والمعلن من خلال التفوهات، والتمظهرات التي تسترق النظر في ثيمتي (الموت) و(النقد السياسي)، ليشكلا علامة سرديّة في متن المجموعة.
تنهض ثيمة (الموث مبثوثة) على صفحات أربع من القصص حضورا، فضلا عن حضورها العابر في قصص أخرى ، فهي تنبض في دلالاتها صوتا ، و صورة حتى صار المكان في القصص فضاء مفتوحا على ما بعده، والموت الذي واجه الشخصيّات الفاعلة في القصص تلك نمطٌ من الغياب القهري الذي يبتلع إكسير الحياة تماما ليجعل من الإنسان، مجرّد علامة ملقاة على قارعة الطرق، فهو نهاية غير مختارة نَظّمت خيوطها ذاكرةُ السرد التي عاشرت الحياة ، وارتضت لنفسها أن تكون شاهدا على عصر مليء بالمغامرات، والخيبات التي تتقدّم واجهة المشهد ليقضم الفقد تفاحة مليئة بالطراوة ، بمعنى أنّ ثيمة الموت في القصص كانت على سلّم إيقاع مختلف مثّل هزيمة أخرى من هزائم الإنسان المعاصر وهو يواجه نهاياته، ولاسيّما أقدار الأجل التي يكون الصراع فيها خفيّا ،ومخيفا إلى حدّ بعيد.
في قصّة (الجنازة) ينهض الموت بدءا من العنوان لكنّ السرد فيها حاول أن يقلب المعتاد إلى ما هو مغاير يتيح للمتلقي استرجاع ما مات تأمّلا، فالموت لا يعني عند الساردة اسدال صفحة النسيان على ذكرى الآخر الذي صار بعيدا، بل يمكن استحضاره ولو بالوهم والتخيّل؛ ولهذا عاود الرجل الاتصال على رقم المتوفاة اقناعا للنفس باندحار الموت، وحضور الميّتة، لم يسمع العبارة المتداولة: الرقم المطلوب غير مبرمج على الشبكة، إنّما -ويا للمفارقة- سمع صوتا نسائيّا بحشرجة يقول: ألو من معي؟.
وفي قصّة (زهرة العمر) على الرغم من عدم تحقّق الزواج في وقته إلا أنّ الإنسان يسعى لتحقيقه في النهاية ولو بالمصادفة ، ذلك ممكن في الحياة ، وفي السرد يأخذ منحى تشويقيّا ، لكنّ الموت يكون للحبيب بالمرصاد لتكون (زهرة العمر) التي أهداها وجودا باعثا على حياة تتجدّد فيها اللقاءات ، فالزهرة علامةُ توحّد دلالات القصّة ومدلولاتها ، فضلا عن أنّها شكلٌ من أشكال التواصل في الحياة.
وفي قصّة (الزهرة الزرقاء) قرّرت المرأة أن تزور قبر صديق حبيبها فكان لها ما أرادت رفقة الحبيب ، ليس في الحدث ما هو غريب ، لكنّ الغرابة ظهرت حين رأت في نهاية الزيارة زهرة زرقاء تنبت عند حافة القبر!، هنا يحضر سيمياء الموت لتكون مهمّته كما العادة خرق عوالم المحبّة ، فالزهرة الزرقاء إيقونة بصريّة تدخل في علاقة مشابهة مع واقع المتوفى؛ والحبيبين؛ أي مع تأريخ العلاقة الذي يرتبط بين الجميع ، فضلا عن أنّ لها ما يشابهها من الأزهار في اللون ، فهي تمتلك موضوعا معيّنا يمكن الاستدلال عليه صوريّا بدلالة الأزرق الذي يحيل على اليأس ، وربما الموت ، فكيف وقد تجاور وجودها والقبر؟.
أمّا في قصّة (حين وقف الموت ببابي) فتكون سرديّة الموت عالقة في ذهن المرأة التي شكرت الموت الذي عجّل برحيلها بوصفه خلاصا من حياة صارت قاحلة، هكذا يأخذها الحلم من برّ الحقيقة إلى سوح المجاز، وها هي تنهض ببياضها الكفني، لكنّ ضربات كفّ الزوج على كتفها أعادتها إلى حيث تعيش.
وتتلصّص الساردة على مسرح الحياة فتمسك بثيمة (النقد السياسي) الذي يتّجه بالقصّة صوب سرديّة نقديّة همّها الكشف عن الأنساق الفاعلة في بنيتي الزمان، والمكان اللذين لهما أثر فاعل في تشكيل الصورة السرديّة تشكيلا سلبيّا مغايرا للطبيعة الإنسانيّة المتعارف على جماليتها، فضلا عن طبيعة الأشياء المحيطة بالإنسان.
والسرديّة النقديّة قراءة معاصرة لأساليب الحياة، وأنماط تشاكلها، واختلافها السوسيولوجي، والمعرفي، تدور في حدود الماضي، والراهن اللذين يشكّلان علامة فارقة في تأريخ الإنسان، لها سمة الرصد للنشاط اليومي غير المنظّم، فهي برحابة إجراءاتها تعمل على تشكيل نصّ قصصيّ رؤيويّ همّه اعادة النظر في طبيعة العلاقة الرابطة بين الإنسان، ومحيطه مرجّحة صيغ التكامل، والانسجام بينهما بعد أن فعلت السياسة فعلها القذر في تنميط الشعوب.
تضع الساردة بتلصّصها الفنيّ المتلقي وجها لوجه أمام حالة البؤس المصنّع الذي يعيشه السياسي العربي المعاصر، ففي قصّة (الوطن) كان السياسيُّ كما هو معهود يعتاش على التصفيق الكاذب، والهتافات الزائفة، والتوصيفات التي تخدش حياء الحقيقة، والصمت الذي لا يعرف أين الحق، والاناشيد الحاضرة في المناسبات كلها، من خلال التمثيل الكاذب لصوت السياسي وسيمياء وجهه، وحركات أصابعه، والتلقي العجيب لخطابه الذي ينضح تنمية وسلاما، ولكن بالوعود فحسب!.
وإذ يتعالى التصفيق، وتتزاحم الهتافات، تخرج امرأة من خلف الجالسين بانعطافة على مستوى الحدث الجاري فتكسر أفق التوقع عند الجميع، وتجعل من التصفيق، والتأييد، والهتاف يسير بشكل مغاير عمّا كان عليه الموقف، حين تعلن بصراحة تامّة: كيف لرجل تسلّق جدار المجد على عاتق امرأة ثم رماها كما يرمي علكة من فمه بعد أن لاكها طويلا، أن يطهّر الوطن من أدرانه؟ من خان امرأة، خان وطنا …!، لقد تمّ كسر أفق التوقع في القصّة من خلال تغيير مسار السرد من التأييد إلى المعارضة، ليصبح للتلقي سلطة عرض النصّ بشكل مغاير حين جعلت الساردة القصّة عرضة للتغيير ، وبهذا يكون النقد قد تجاوز الإشكالية السياسيّة إلى إشكاليّة المجتمع، وتصوّراته: فالمرأة، وطن، والوطن امرأة، والخيانة واحدة لا تتجزأ.
وفي قصّة (الضحك) تضع الساردة المتلقي في دعوة لاستثمار الضحك اليومي في الحياة ، ضحك من أجل الضحك أولا ، ثم تأخذ الدعوة شكلا آخر: إن كنت تعيش حالة اكتئاب والضّحكة عصيّة عليك، يكفي أن تنظر إلى نشرة الأنباء المسائيّة وتستمع إلى مواجيز الأخبار التي تأتينا في كلّ ساعة من اليوم لتذكّرنا بخيباتنا ، والتفافنا حول القضايا الوهميّة، هذه الدعوة ترافقت والجميع ضجر، ومخنوق في حافلة تروم الوصول إلى غايتها، في ظلّ ذلك الجو الفنتازي كان ثمّة شاب يافع تغطّي جسده الضّخم أسمال بالية ، يمسك بيده صحيفة قديمة ، وبالأخرى يحاول التّماسك حتّى يتفادى الارتطام بأحدهم . كان تارة يحدّق النّظر في الصّحيفة، وتارة يحملق في الجموع الّذين انهالوا عليه بنظراتهم المغتاظة، وقد بدوا كأنّهم يوجهون إليه صفعاتهم الحارقة، بدا واضحا كأنّه معتوه، ليس العته في الفتى، وليس في من في الحافلة، إنّما في أخبار الجريدة! التي لا تستحق أن تُشترى، وأن تُقرأ… هنا تحوّل الضحك إلى سخريّة مرّة من الواقع السياسي الذي ينتج مزيدا من الكوميديا السوداء التي جعلت سائق الحافلة وقد أفلت المقود من بين يديه، وغاب في ضحكة صاخبة!.
هل هذا كلّ ما تلصّصت به الساردة؟، لا هناك قصص أخرى انفتحت على ثيمات الفقر، والنفس، والجسد، والخيانة ،وعالم الحيوان ، والثقافة بلغة شفيفة خلت تماما من الألفاظ المحليّة ، ومن التعقيد وارتضت لنفسها أن تكون وعاء لأفكار غايتها التهذيب ، والإمتاع ، فاللغة في السرد برأي (رولان بارت)هي التي تتكلم، وليس مؤلفها، أو القصّة ،وضمير السارد ؛ ولهذا يجب استنطاق صوت السرد الحقيقي في غمرة الاحتفاء بالقصص الجديدة، وتمثلاتها النصيّة.
- أكاديمي وناقد من العراق.