عبد الرحمن أبو عوف مصطفى
أن ماحدث في إقليم كردستان العراق مؤخراً من شغب وخروج فاضح عن القانون (في زاخو ودهوك ونواحي وأقضية أخرى) لايمكن له أن يكون حدثا وليد الصدفة أو بعيداً عن نوايا سياسية مسبقة لطرف ما ضد خصم سياسي آخر. ولكن رغم التخطيط المسبق ألا أن تسارع الحدث واتساعه كالنار في الهشيم شكـّل عنصر مفاجأة لجميع الأطراف بما فيهم الطرف المؤجج لنار الفتنة، الذي وعلى مايبدو أرادها أن تكون فوضى محدودة وخلاّقة ولكن أتت الرياح بما لاتشتهي السفن، ليقع هو الآخر فريسة ردود أفعال ذو طابع انتقامي تمثّلت في حرق مكاتب الطرف المستهدف أي: مقراّت الاتحاد الاسلامي الكردستاني.
لقد كان التعايش السلمي في الإقليم بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة وعلى وجه الخصوص بين المسلمين والمسيحيين والإيزيديين ولازال حقيقة قائمة ومنذ أمد بعيد، وأن معظم الصراعات التي شهدها الإقليم من قبل لم يكن الدين طرفاً فيها مثلما كانت الدوافع السياسية هي المحرّكة لطرفي النزاع على الأغلب أو القبلية في بعض الأحيان. ومن جانب آخر، وبإستثناء مراكز التدليك فأن معظم الأماكن الترفيهية ومحلات بيع الخمور التي استهدفت من قبل المتظاهرين لم تكن جديدة على المنطقة بل كانت موجودة منذ عهود سابقة ولم يسبق لها أن تعرضّت لهكذا استهداف… فمالجديد بالأمر؟
لاشك أن الجديد في الأمر ليس بعيداً عمّا حدث في العراق ويحدث في المنطقة عموماً من وصول الاسلاميين الى رأس السلطة، وبالتالي فهي محاولة استباقية من قبل أطراف علمانية نافذة لإضفاء صفة التطرف على التنظيمات الاسلامية في الاقليم. ولكن ، لم يكن في حسبان المتصيدين بالماء العكر بأن نارا مستعرة تحت الرماد تمثلت بوجود شرائح مكبوتة من المجتمع ركبت موجة الأحداث لتصبح هي الطرف الأساسي في المواجهة.. لتتصدى لأطراف سياسية لم تصغي يوماً لمطالبهم ولم تتفرغ لهمومهم بل كان الفساد والإفساد هو شغلها الشاغل. ومما يرجّح الإعتقاد بأن القضية قد إفتعلتها في البداية مجموعة صغيرة متحزبّة (عصابة) تابعة لأطراف نافذة ومتسلطة وموجهة لحرق مكان أو مكانين سياحيين لكي تتهم أطراف اسلامية بذلك. ولم يمر من الوقت الكثير حتى وجدت هذه العصابة نفسها محاطة بشباب غاضب أشعل الحرائق لتوسيع رقعة الفوضى دون أن يعرف هدف وسر اللعبة، عندها إنقلب السحر على الساحر وخرجت الإمور عن سيطرة الجميع. بعد ذاك كان رد الفعل انتقاميا للنيل من مقرات ومكاتب الطرف المستهدف الذي لم تفلح العصابة في تشويه سمعته في الداخل والخارج.. مما يؤكد بالنتيجة أن (المسؤول الأول والأخير عما حدث والمحرّض على الفتنة هو الطرف الذي وقف وراء جريمة حرق مقراّت الاتحاد الاسلامي الكردستاني).
مع أني درست العلوم الدينية في المعهد الاسلامي في سان دييغو وتفاعلت مع الكثير من الأنشطة الدينية والانسانية ألاّ أني أتحدّث هنا كمستقل غير منتم لأي جهة سياسية اسلامية أو علمانية، ولكن كوني مستقل لايعني الوقوف متفرجّا على من يسعى بخبث لإخراج أي نشاط سياسي إسلامي من دائرة الإعتدال والوسطية وتصنيفه في خانة التطرّف والإرهاب وفقا لمزاجه الخاص ورغبته في توسيع دائرة نفوذه على حساب الآخرين لكي ينتهي الى استعباد الإنسان الذي كرّمته السماء حيث يقول تعالى “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (سورة الإسراء) ..لكن التكريم الإلهي يُقابل اليوم بإستباحة الدماء والممتلكات والحريات من قبل المتسلطين والظالمين.
ولايمنعنا ذلك أيضا من الإقرار بوجود حركات ومجاميع إرهابية رفعت ولازالت ترفع الإسلام شعارا في الوقت الذي أمعنت وتمعن في الإساءة للإنسان والإنسانية وإهلاك الحرث والنسل، ألاّ أن مثل هذه الأنشطة باتت مشخّصة ومعلومة لدى القاصي والداني ولايمكن تعميم سلوكياتها اللا إنسانية على بقية الفعاليات الاسلامية المتمسكة بنهج الاعتدال في خطابها الاعلامي وحراكها السياسي. لذلك نرى في أن أصحاب المقالات ممّن يستغلون مساحة الحرية في الاعلام الالكتروني لخلط الحابل بالنابل والطعن بالدين الاسلامي والإساءة لشخص الرسول الأكرم (ص)، ماهم إلا عناوين بارزة للتطرف العلماني أسوة بالتطرف الإسلامي على حدّ سواء.
نحن ضد التطرّف علمانياً كان أو إسلامياً، ولي مقال سابق جاء استنكارا لإستهداف مسؤولي الحزبين الحاكمين في أول أيام عيد الأضحى عام 2006، كان بعنوان (الإرهاب ربيب الشيطان) أصف فيه بشاعة تطرّف الجهة المنفّذة للإعتداء والمتلحفة بعباءة الإسلام. بعبارة أخرى أن لا تهاون مع المتطرفّين أي كانت العناوين والشعارات التي يرفعونها أو المبررات الملازمة لأفعالهم وأقوالهم اللاّ إنسانية وهذا مانرجوه من الأخوة العلمانيين أيضا: أي الوقوف بوجه التطرف المبتذل لبعض الأقلام المحسوبة عليهم حفاظاً على التعايش السلمي والسلم الأهلي في الإقليم.
عودٌ على بدء، أن مثل هذه الفتنة المقيتة التي حدثت في إقليم كردستان العراق، لايمكن أن يسدل عليها الستار بالجلوس الى طاولة المجاملات السياسية وتفريغ الحدث من أبعاده المجتمعية.. فالقضية لم تعد مقتصرة على طرفين سياسيين بل تتعداهم الى ماهو أبعد كونها سابقة خطيرة ذو مساس مباشر بالسلم الأهلي في الإقليم، ويأتي هنا دور السلطة القضائية سواءً القضاء في الإقليم أو (في حال عجزه) فالمحكمة الإتحادية في بغداد…
ان إصرار الأطراف المعنية على جعل القانون هو الفيصل وعدم تحييد القضاء في مسألة إختلطت بها الأوراق السياسية بالاجتماعية لهو دليل صدق وحرص هذه الأطراف على أرواح وممتلكات الناس ومؤشرا انسانيا لنوايا صادقة تهدف الى تجنّب وقوع مثل هذه الفتنة مستقبلا، كما أن تدخّل القضاء سوف يحول دون إمتداد (التنافر والتباغض) الى الجاليات الكردستانية في المهجر. عدا ذلك فإن الحلول السياسية في الغرف المغلقة وتبويس اللحى ماهو إلاّ نذير شؤم لمزيد من الفتن، بل ودلالة واضحة على إستخفاف هذه الأطراف بالمجتمع الكردستاني وإستهزاءهم بسلطة القضاء، عندها (إن حصلت التعمية وتم التعويض وترميم المباني المحترقة بعيدا عن القانون) فلا نلام حينها إن ردّدنا معاً.. تسمية (إقليم اللاّ قانون) التي أطلقها رئيس تحرير صحيفة صوت كردستان الأستاذ هشام عقراوي، في مقاله الأخير والذي تناول فيه أحداث (الفتنة).