الـهـنـدي الـبَـسـيـط الـذي أدهَـشَ العالم
الدكتور عبـد القـادر حسين ياسين*
“Take him all in all,
I shall never see his like again.”
William Shakespeare
إحـتـفـلـت الـهـنـد في الأسـبـوع الـمـاضي بالذكرى الـثــمـانـيـن لـوفأاة رابندرانات طاغور ، كـ “أعظم كاتب في الأدب الهندي الحديث” لكونه “جمع بين فنون الشعر والرواية والفلسفة والمسرح والموسيقى” وساهم في وضع الكثير من أسس التربية الروحية التي “أدهشت الناس وأسكنتهم في طمأنينة الحياة ” حتى فاقت شهرته حدود الهند.
إسمه يعني “الشمس المشرقة”، وهـو من الأدبـاء القلائل الذين فاقت شهرتهم، شهرة جائزة نوبل. كثيرون حازوا هذه الجائزة وتسلقوا سلم المجد الأدبي بفضلها، وبعضهم طواه النسيان. لكن هذه الجائزة، التي نالها طاغور عام 1913، بقيت تفصيلاً بسيطاً في تجربته الغنية، الواسعة التي تخطت حدود بلاده الهند لتكون حاضرة بمختلف لغات العالم.
وُلد رابـنـدرانـات طاغـور في مدينة كلكتا في الـعـام 1861 لأب سليل عراقة ونبل؛ يُعـد من أعلام التصوف. ذاق طاغور في طفولته المبكرة رغـد العيش، وأتاحت له هذه النشأة أن ينهل من ينابيع الفن الصافية من رسم وغناء وشعر إستحوذ على اهتمام أفراد أسرته المثقفة. كان يلقى اهتماماً خاصاً من والده الذي اصطحبه ذات يوم في رحلة الى جبال الهمالايا. ستترك هذه الرحلة أثراً في مشاعـر الطفل الذي عرف، منذ تلك اللحظة، عظمة الكون وجماله و “التأمت الصور والطيوف والظلال، متناغمة، مؤتلفة، لتتسرب ذات يوم إلى كتاباته”.
بيد أن رغـد العيش هذا لم يدم طويلاً، فسرعان ما رحلت والدته، فلاذ بالطبيعة وأَنِس إليها؛ يناجيها ويتعلم منها، بل رأى فيها خلاصه. في العام التالي انتحرت شقـيقـته، مما سبـَّبَ له صدمة هائلة، وقاده ذلك إلى محبة الإنسانية جمعاء، بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص.
حين شبَّ الفتى أراد والده أن يدرس القانون، فأرسله إلى كلية برايتون في إنجلترا، غير أنه لم يجد في دراسة القانون ما يُرضي لهفته الجامحة إلى الفن والأدب. لكنه استفاد كثيراً من وجوده في إنجلترا بإطلاعه على روائع وليم شكسبير وجون ملتون ووليم بليك وغيرهم. وعند عودته الى بلاده أصدر ديوانه الأول “أغاني المساء” الذي قوبل بالثناء والتشجيع، وأردفه بديوان “أغاني الصباح” الذي نحا فيه نحو الرمزية.
في هذه المرحلة خبر طاغور، من جديد، مرارة الموت، إذ فقد زوجته ولحق بها ابنه وابنته وأبوه في فترات متتابعة. لكن عاصفة الموت الجديدة هذه أشعرته بالنقص وحفزته على نشدان الكمال، وألهمته أن العالم “لا يفقد ما يضيع فيه”. هذا الحزن الذي استبد بقلبه طبع شعره بطابع الأسى ، قصائد مترعة بمعاني الموت والحزن الشفيف دفع بالكاتب والنـاقـد الفرنسي أندريه جيد للقول: “ليس في الشعر العالمي كله ما يدانيها عمقاً وروعة”.
أحس أنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها، ومع ذلك فقد جعل منه صفاؤه الواسع وضبطه لنفسه إنساناً نادر العظمة، ينشد في إحدى أغانيه: “أنا هذا البخور الذي لا يضوّع عطره ما لم يُحرق، أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل”.
وتعاقبت، بعد ذلك، كتابات طاغور في الفلسفة والقصة والرواية والشعر والمسرح، فضلاً عن موهبته المتأخرة في الرسم. وعلى الرغم من هيمنة هذا المنحى الأدبي الشجي، وتلك النبرة الغنائية على هذه “الروائع” فـإن طاغور لم ينسَ قضيته الوطنية، فقد دعا على الدوام الى خلاص شعـبه، وقدم دروساً في التربية الوطنية، كما حصل إبان ثورة البنجاب عام 1919 التي قابلتها سلطات الاستعمار البريطاني بسياسة الحديد والنار، فقام طاغور بإعـادة لـقـب Sir “سير” إلى ملك بريطانيا الذي منحه إياه من قبل “إعجاباً بشعره واعترافاً بعبقريته.” وكتب مـئـات المقالات التي تحيي الشعور الوطني وتحرض الـهـنـود على مقاومة الاحتلال البريطاني .
لم يكتف طاغور بدراسة الشعر والمسرح بل درس رياضة الجودو واللغة السنسكريتية وآدابها وعلم الفلك واللغة الإنكليزية ، وهكذا شكلت الفنون والآداب والعلوم جزءاً كبيراً من حياته.
أمدَّه الـفـلاحـون البسطاء الذين عاش بينهم بالكثير من الإلهام حول أوضاعهم المعيشية وعاداتهم الاجتماعية ومفاهيمهم الحياتية التي ظهرت روعـتها في كتاباته الـنـثرية التي تميزت بمقدرته على رواية الأحاديث برهافة حـسّ وأسلوب فكاهي انسحب على مجمل تجربته الأدبية.
أدرك طاغور جوهر السلوك الاجتماعي للـفـلاحين وهو الاعتماد على الذات والمبادرة المحلية في المجتمع القروي وهو ما شكل أساس إعادة تنظيم المجتمع في المناطق الريفية الهندية فعمل على إدخال رؤاه الفكرية التعليمية لتطوير الريف الهندي.
لا تخلو كتابات طاغور من القيم الفكرية والفلسفية والمبادئ الأخلاقية سواء في قصصه وأشعاره أو في رواياته الواقعية التي شكلت فيها الطبيعة ركناً أساسياً بمختلف صورها وتجلياتها ، حتى ليظن المرء وهو يطالع هذه الروائع أنه يسير في حديقة يشم فيها رحيق الأزهار ويصغي الى حفيف الأشجـار وخرير الماء وخفقة جناح الطير عبر توظيفه هذا الجمال في صياغة الحكم والأمثال.
وحفلت تجربة طاغور المميزة التي أثرت التراث الإنساني بأكثر من ألف قصيدة شعرية و 25 مسرحية وثمانية مجلدات قصصية وثماني روايات إضافة إلى عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية.
وإلى جانب هذه الكتابات فقد اتجهت عبقرية طاغور إلى الرسم الذي احترفه في سن متأخرة نسبيا حيث أنتج آلاف اللوحات كما كانت له صولات إبداعية في الموسيقى فوضع أكثر من ألفي أغـنـيـة تم اختيار اثـنـتـيـن منها لتصبحان النشيدين الوطنيين للهند وبنغلاديش.
كتب عنه ميخائيل نعيمة بمناسبة مرور مئة عام على ميلاده، وذلك عام 1861: “كان أنشودة عـذبة في فم الحياة، فكانت الحياة أنشودة في فمه، وكان جوهرة نادرة في خزانتها، فكانت جوهرة نادرة في خزانته، لقد غـنـّتـه فغـنـَّاها، وأغـنته فأغـناها”.
ويرى الدكتور شكري عياد أن طـاغـور “… لا يفرّق في تقديره للإنسان بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين دين ودين… كان الإنسان عنده هو الإنسان، في أية صورة جاء، وفي أية أرض نشأ”.
ظلَّ طاغور متمكساً بمبادئه من نبذ للعنف وإشاعة المحبة وبساطة العيش حتى وفاته في الثامن من شهر آب عام 1941 وقد أدهش الكثيرين بأفكاره وطريقة التعبير عنها فاستحق لقب “منارة الهند” الذي وسـَمـَه به الـمـهـاتـمـا غاندي.
تركت وفـاة أمـه أثراً عميقاً في نفس طاغور ، إذ كتب معلقاً : “لقد حرمني القدر أمي، وأنا بعد فتى صغير، فأصبحت وحيداً ألوذ بنافذتي وأتأمل في الطبيعة وأرسم في مخيلتي ما يترقرق في الكون من صور شتى. لقد كانت الطبيعة رفيقي الذي وجدته إلى جواري دائماً”.
وهو لا يوظف جمال الطبيعية ولا يستعين بفتنتها وتوازنها واعتدالها، إلا لكي يصوغ حكمة، أو يبث مقولة أو أمثولة تعبر عن فكرة فلسفية مكثفة. وهذا ما لاحظه الكاتب الفرنسي رومان رولان بعد لقاء مع الأديب الهندي، إذ كتب: “حين تقترب من طاغور ينتابك شعور أنك في معـبد، فتتكلم بصوت خفيض. وإن أتيح لك، بعد هذا، أن تتملى قسمات وجهه الدقيقة الأبية، فإنك واجدٌ خلف موسيقى خطوطها وطمأنينتها، الأحزان التي هيمن عليها، والنظرات التي لم يداخلها الوهم، والذكاء الجريء الذي يواجه صراع الحياة في ثبات”.
ولد الإنسان، برأي طاغور، محباً للآخرين، وحراً، وليس عبداً لشهواته ولا للآخرين. وإنما هو حر في اختياره هذا الموقف أو ذاك، وعلى الإنسان أن يشعر بوحدته مع الكون بكامله، فالإنسان متحد مع عناصر الكون، يتأثر بها ويؤثر فيها، ولكي يحب الإنسان الكون بما فيه، ومن فيه عليه معرفة الكون وإدراكه، لأن الإنسان بطبيعته عدو لما يجهل، فالمعرفة هي وسيلة من وسائل المحبة، محبة الإنسان لنفسه وللآخرين وللكون بكامله… لا يفرق طاغور بين إنسان وآخر، ويرى أن الأنانية تعمي بصيرتنا، وتحول دون رؤية الحقيقة، ولا معنى للحياة إلا في خدمة الآخرين لدرجة الذوبان في الآخرين، ونسيان الذات، ويركز طاغور على مفهومي المحبة والمعرفة، ويرى أنهما متكاملان.
ويرى طاغور أن من أخطاء الإنسان أنه يحاول أن يربح الجزء فيخسر الكل. وعندما يضحي الإنسان بالجزء أي بالقليل فإنه يربح الكثير، وعلى الإنسان تحمل الألم وتحويله إلى فرح. ويجب ألا يخشى المرض والموت، ولذلك فهو يرى ضرورة المحبة، بصفتها شعوراً سامياً ومفيداً, والتعبير عن هذا الشعور بالفعل أكثر من القول. يقول طاغور في إحدى أغنياته:
كـان طـاغـورمنذ طفولته مولعاً بالقراءة، ويـقـول : “قرأت في طفولتي كل كتاب وقع بين يديّ من الغلاف إلى الغلاف” وساعده مناخ الأسرة على إبراز عبقريته في كافة المجالات، المسرح والشعر والرسم والسياسة والغـناء… ألـَّف طاغور أكثر من ألف قصيدة وأكثر من ألفي أغنية ، وبدأ يرسم في السبعين من عمره ، فرسم خلال العشر سنوات الأخيرة من عمره أكثر من ثلاثة آلاف لوحة.
لم تتزعزع ثقته بحضارة الهند العريقة على الرغم من إطلاعه على الثقافة الغربية، ويرى أن الحضارة العالمية هي صنع كل الشعوب ولكن بعضها في فترات معينة يُسهم أكثر من غيره في صنع هذه الحضارة. وكانت تتصارع في ذاته ثلاثة اتجاهات الاتجاه الوطني والديني والأدبي. سمَّاه الـمـهـاتـمـا غاندي “المعلم الأول” …
وبـعــد ؛
لـقـد خـسـر طـاغـور كل مباهج الحياة ليظفر بالثمرة الناضجة، ووظـَّف سنوات عمره في سبيل رفعة الكلمة، وسمو الحرف. ومهما سعى المرء الى الإحاطة بتجربته الواسعة والغـنية فلن يقدم سوى جزءاً يسيراً من ملامح موهـبة تعددت وتنوعـت على نحو فريد، فطاغور الشاعر والقاص والمسرحي والرسام والموسيقي، “مـُذهـل في مداه، ومـُذهـل في عوالمه” التي جعـلته أحد أعظم كتاب الهند في مختلف العصور.