تحتل العشيرة مكانة بارزة في المجتمعات لاسيما الشرقية، بحيث اصبحت كما يراها البعض هي احدى اهم الاشكاليات التي تمر بها بلدان المنطقة، لاسيما من حيث نفوذها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الديني المذهبي، ناهيك عن المجالات الاخرى كالعسكرية التي تحولت هي الاخرى الى مؤسسات عشائرية تمدها العشيرة نفسها بالكثير من الامدادات البشرية والمادية، وذلك ما يفرض على الدولة ان تتعامل معها وفق قواعد مغايرة تعتمد على التوافقية والمسايرة في اغلب الاحيان بعيداً كل البعد عن روح القانون الذي من المفترض ان يتسيد هو الواقع.
مرت البشرية سواء في الغرب ام الشرق بمراحل تاريخية تسيدت فيها العشيرة والعشائرية مقاليد الامور، ففي الغرب كما يقول حسني عايش: وقبل قيام الدولة واندلاع الثورة الصناعية وظهور الاقتصاد والتعليم الحديثين، كانت العشيرة والعشائرية سائدة فيها، ولكن بعد التحولات التي ذكرناها حلت الدولة والاحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني محل العشائر والعشائرية، على الرغم من ان العشرة كرابطة دم وقرابة بقيت ولكن فقط كشجرة يعرف المرء من خلالها من اين جاء والى اين ينتهي، وبذلك لم تزل هناك العديد من العشائر موجودة او معروفة بسلسلتها او بشجرتها المدونة وليس المدعاة بالتاريخ الشفوي الذي لاسند له وهي على الرغم من نفوذها السياسي والاقتصادي خاصعة للقانون والدولة.
وفي الشرق تختلف الموازين والمفاهيم، فالعشيرة ” العشائر ” لم تزل متحكمة بامورها الاجتماعية وروابطها الدموية وتعمل على حل مشاكلها بنفسها، وذلك ما يجعل امورها تتداخل في الكثير من الاحيان مع امور الدولة نفسها لاسيما فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية، او حتى المسارات السياسية الانتخابية والى غير ذلك، ان هذا التداخل هو الذي اضفى على مفهوم العشيرة بعض المتغيرات الحالية، فحولتها الى وحدة اجتماعية فعالة ومهيمنة وفق منطق العشائرية، كما ان تلك التداخلات نفسها جعلت بعض العشائر تمارس سلطتها لاقامة وحدة عشائرية، هذا التحول غير من مفهوم العشيرة وجعلها تختلف كلياً عن ما سائد حولها وعن ما هي عليه في الاصل.
فالعشيرة كما يراها د . محمد الخطيب في كتابه الاثنولوجيا ” دراسة عن المجتمعات البدائية ” : هي وحدة اجتماعية تعتبر امتداد للاسرة وتتميز بتسلسل قرابي معين يتفق مع نظام سكني خاص ولذلك فان العشيرة هي وحدة مكانية ويعتقد افراد العشيرة الواحدة في وجود جد واحد مشترك قام بتاسيس العشيرة واحياناً يكون ذلك الجد شخصية اسطورية ، وينقل د. محمد احمد غنيم في كتابه الضبط الاجتماعي والقانون العرفي ” دراسة في الانثروبولوجيا الاجتماعية ” عن العالم الاجتماعي الفرنسي “دوركايهم” تعريفاً عن العشيرة على انها مجتمع تتعدد فيه الزمر الاجتماعية ولكنه لايزال يحتفظ بوحدته وتجانسه وعدم قبوله للانقسام الى عدة مجتمعات تتمايز على الرغم من انها تتكون من الاسر الصغيرة التي لاتكون اقساماً سياسية متمايزة.
وبذلك تبقى العشيرة ضمن جغرافيتها المكانية والزمنية وحدة قائمة، تساهم كثيراً في حل النزاعات الاجتماعية، كما تساهم في مد الدولة بالكثير من الطاقات والخبرات العملية، وهي طالما خاصعة للقانون فهي منتجة، فعالة، ومهمة لاستكمال عملية البناء التي تسعى اليه الدول، لاسيما في الشرق بصورة عامة والشرق الاوسط بصورة خاصة، فافراد العشيرة حين يخضعون لمؤسسات الدولة يساهمون في تطوريها، وهذا ما جعل علاء ناجي يذهب في دراسة اكاديمية له منشورة على الانترنيت بعنوان ” الدور الاجتماعي للعشيرة في تحقيق السلم المجتمعي “،الى ان العشيرة كانت ومازالت وحدة سياسية واجتماعية واقتصادية تمارس دوراً مهما في ضبط سلوك افراد المجتمع وكذلك تلعب دورا رئيساً في حفظ كيان المجتمع من الاخطار الخارجية، كما ان لها الدور الاكبر في فض النزاعات والصراعات وكذلك معالجة المشاكل التي تواجه الافراد، وهي تحافظ ايضا على تجانس وتماسك الافراد بصورة خاصة وباقي افراد المجتمع بصورة عامة. اذ ان العشيرة هي مؤسسة اجتماعية سياسية تهدف الى تحقيق الامن والاستقرار وبث الطمأنينة بين الافراد وزرع الألفة والمحبة وغرس المودة واصلاح والتكافل الاجتماعي ونبذ التطرف والعنف والصراع بينهم.
وعلى الرغم من قيامه بالخلط بين مفهوم العشيرة والعشائرية في دراسته الا انها اعطت رؤية واضحة حول اهمية الدور الذي يمكن ان تقوم به العشيرة داخل المجتمعات بصورة عامة، ومع ذلك يتوجب علينا البحث عن وجه الاختلاف الحقيقي بين تلك المفاهيم التي ذكرناها حول العشيرة و بين مفهوم العشائرية التي يراها حسني عايش على انها عقلية او اتجاه سياسي يسعى الى تحويل العشيرة الى نوع من الحزب السياسي في مواجهة العشائر الاخرى، والاحتكام اليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية، بهذه العقلية او التحويلة تصبح العشائرية شكلاً من اشكال الايديولوجية يرجع اليها ويفسر بها كل امر مثل تشكيل الحكومات، والانتخابات البرلمانية، والبلدية والنقابية، والمقاضاة، والوظائف العامة، المدنية والعسكرية وربما الاستثمارات والاعمال في القطاع الخاص. اي كالايديوجيات الاخرى مثل الايديولوجية القومية والايدولوجيا الشيوعية والايدولوجية الاسلامية وهكذا، عندئذ تصبح كل عشيرة – بالعشائرية – حزبا في مواجهة بقية اجنحة الحزب العشائر الفرعية داخل العشيرة او العشائر الاخرى عداً ونقداً. ولقد افرزت عن هذه التحولات مصطلحات اخرى في بعض الدول الشرق اوسطية مثل الدكة العشائرية والتي يُعرفها د. عامر صالح في مقال له بعنوان “الدكة العشائرية بين الارهاب واعادة انتاج العشيرة – ملاحظات سايكواجتماعية ” على ان مفهومها يتخلص باقدام مسلحين ينتمون لعشيرة على تهديد عائلة من عشيرة اخرى، من خلال عملية اطلاق نار بمختلف الاسلحة….. على منزل المقصود، كتحذير شديد اللهجة لدفعها على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف، وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف تتطور الامور لتؤدي الى وقوع ضحايا من الطرفين. وهذا بالضبط ما يخلق المفهوم الصحيح للعشائرية التي تتحول الى قوة سلبية على الساحة الاجتماعية، وتؤدي دوراً فوضوياً في المجتمع والدولة، ومما لاشك فيه ان هذه الظاهرة لاتخدم الرؤية الصحيحة للعشيرة كوحدة اجتماعية متماسكة انما تفكك العشيرة نفسها الى وحدات اخرى مغايرة تخدم مصالحها على حساب العشائر الاخرى وبذلك تُحول العشيرة وجودها الى عشائرية ساعية لفرض هيمنتها، وهذا لايحدث الا كنتيجة حتمية لضعف الدولة ووجود خلل في اجهزتها ومؤسساتها، حيث تصبح العشائرية مفهوماً وقانوناً في تلك الدولة ويرجع اليها حتى في الانتخابات وتوزيع المناصب والايرادات، وحين تعتمد الدولة في سن قوانينها على المرجعيات بصورة عامة تدخل في نفق مظلم لاتخرج منه الا بخسائر لايمكن تعويضها على جميع الاصعدة، فالتاريخ يؤكد على ان المرجعيات القبلية التي تضم داخل جغرافيتها العديد من العشائر، لم تستطع ان تسيطر على جميع تلك العشائر لاسيما التي امتلكت طموح السلطة والريادة فحولت مساراتها للتمرد والسعي للحصول على مكتسبات، وباتت تشكل تهديداً على النظام العشائري المتماسك داخل القبيلة نفسها، ما نتج عن ذلك فوضى داخل الدولة.
ووفق هذه المتحولات والمتغيرات التي طرأت على دور العشيرة – العشائرية – اصبحت الشعوب تنظر الى مفهوم العشيرة بسلبية وترجع اليها جميع الاخفاقات وجميع الانكسارات التي تحدث سواء على المستويات الجماعية او الفردية، على الرغم من ان الامر مجحف بحق تلك العشائر _ العشيرة – التي حافظت على كيانها ووحدتها الاجتماعية وتساهم بشكل ايجابي في مد الدولة بمقومات الاستمرارية من خلال دعمها والامتثال لسياستها وقوانينها،كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، ولم ينخرطوا في تلك الاعمال التي تجعل منهم حزباً او ايديولوجية مناهضة للدولة، بالعكس تماما فانها تقدم نفسها انموذجا للتعايش السلمي. وهذا ما يفرض علينا البحث عن الظروف التي تحفز العشيرة لتقبل المتغيرات والتحولات السلبية، والتي تجعلها تتحول تدريجياً الى حزب سياسي او ايديولوجية فتخرج عن سلطة الدولة ولاتعترف بقوانينها، وتفرض وجودها بالقوة والسلاح كمكون اساسي ورئيسي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة.