الديمقراطية ووظائف “الاحزاب السياسية”
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشمري
يتفق الباحثون في النظم السياسية على ان الأحداث المتسارعة والصراعات المستمرة على الساحتين الدولية والإقليمية، وكذلك على الساحة المحلية، تؤكد حقيقة ان الحياة السياسية امست مليئة بالانقسامات والاتجاهات والمصالح والتنافسات والأمزجة المتباينة، والطموحات والآمال المختلفة، وأضحت كل هذه الحقائق بمثابة محركات لنشاط الاحزاب السياسي التي تعبر في طبيعة الحال عن المصالح المتماثلة لمجموعة من الأفراد، ونتيجة لذلك فهي تعمل على تجميع تلك المصالح بهدف تحقيقها مستخدمة كافة الوسائل المتاحة من خلال عدة وظائف منها:
1.القدرة على تعبئة الرأي العام: ان من اهم الوظائف، على الوجه الأعم، قيام “الاحزاب السياسية” بتعبئة الرأي العام لكسب تأييد الجماهير لها، حيث تستند هذه الوظيفة على اساس توعية افراد الشعب ورفع مستوى وعيهم الوطني والثقافي وتوسيع مداركهم السياسية وترسيخ الشعور لديهم بالمسؤولية وتنمية القناعة في الذات الانسانية بأن المصالح الفردية مرتبطة ومتجذرة بالمصلحة العامة. ويتوقف نجاح الحزب في مهمته هذه حين لا يقوم بكسب عدد أكبر من مواطنيه من خلال عملية اقناعهم بقدرته على تحقيق رغباتهم وآمالهم الشخصية فحسب، وإنما عليه ان يقوم بترجمة هذه الرغبات والآمال والطموحات في اطار القيم والمبادئ الوطنية العامة التي يتبناها من اجل النهوض بالمجتمع الجمعي الى مستوى طموح جميع الافراد والمكونات الفاعلة. وعادة ما يكون ذلك من خلال حملة التثقيف المجتمعي والدعاية السياسية لأفكار وأيديولوجية الحزب التي تقوم بها تنظيماته المنتشرة لاقناع الجماهير بسعي الحزب لتحقيق طموحاتها. وبهذه الطريقة يبرز دور الاحزاب السياسية ومساعدتها في تنمية وإنضاج الوعي السياسي والثقافي لدى عموم الشرائح الاجتماعية للمواطنين.
في دول العالم الاول التي تؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، تبذل الاحزاب السياسية، التي تقتصر عضويتها على النخب الفاعلة وتطمح للوصول الى قمة هرم السلطة من خلالها، قصار جهدها لتعبئة الرأي العام الجماهيري وإقناعه بأهدافها الوطنية العامة وصولاً الى كسب تأييد الناخبين لمرشحيها في الانتخابات العامة التي تأتي بهم الى مقاعد البرلمان والحكومة على المستويين المركزي والمحلي، بعدها يبدأ مسلسل تحقيق الاهداف العامة على ارض الواقع، الاهداف التي تنمي الروح الوطنية لدى الافراد وتزيد من رفاهية المجتمع والنفوذ السياسي والاقتصادي للدولة على المستويين المحلي والدولي، اي مواصلة التطور في جميع المجالات في اطار الاهداف المشتركة للقوى السياسية المتناوبة على السلطة.
وعلى عكس ما يحصل في الدول ذات الديمقراطيات الناشئة في العالم، فإن الاحزاب السياسية في دول العالم الاول لا تحرص كثيراً على ان تكون ذات طابع جماهيري لتعبئة وتجنيد أغلب ابناء المجتمع وضمهم الى صفوفها بهدف توسيع القاعدة الجماهيرية من الطبقة الوسطى والمعدومة التي تفتقر الى النخب المثقفة الكفوءة، والتي غالباً ما يتم توظيفها في تغيير نظام الحكم وتصفية الخصوم للاستحواذ على السلطة والاحتفاظ بها بكل الوسائل المتاحة لضمان ديمومة واستمرارية نشاط الحزب أو ائتلاف الاحزاب المهيمنة على السلطة. وهو في طبيعة الحال تصرف مرفوض لأنهُ يبتعد كثيرا عن النظم الديمقراطية والأهداف العامة للدولة والمجتمع، ويقتل في ذات الوقت روح المواطنة في افئدة الأفراد، ويعطل التنمية البشرية والاقتصادية والعلمية والثقافية، ويسلب هيبة الدولة ووقارها في العمل السياسي، ويشجع التمرد على القانون وانتشار ثقافة الفساد ونهب المال العام، بالإضافة الى نمو حواضن الارهاب والتشجيع عليه. ونتيجة لذلك يبدأ الشلل في مؤسسات الدولة الذي يؤدي الى فقدان الربان السيطرة على مقود القيادة، ((لأنك لا تستطيع، في آن واحد، ان تحاسب متهم اسمه شعب)).
2. الاختيار الأمثل للكوادر القيادية: مما لاشك فيه ان الاحزاب السياسية لها الحق في التنافس المشروع مع بعضها بهدف بلوغ مراكز القوة والحكم، حيث تعتمد الاحزاب في الدول المتقدمة ديمقراطياً على العملية الانتخابية النزيهة لقطع مسيرة الوصول الى السلطة شريطة ان تكون هذه الجماعة او تلك قادرة على تقديم مرشحين أكفاء للمناصب العامة، بعيدا عن الانتماءات والمحسوبية، لانه ومن خلال هؤلاء المرشحين يستطيع الحزب والناخب تنشيط مؤسسات الدولة وتحقيق الاهداف العامة للمجتمع التي تُغني الطموحات والآمال الشخصية وترسخ العدالة الاجتماعية وهيبة الدولة واحترام القانون في عقول الناس وضمائرهم. ولذلك تسعى الاحزاب السياسية في الدول المتقدمة وتعمل جاهدةً على تدريب كوادرها باستمرار ليكونوا مهيئين كمرشحين في الانتخابات ومنافسين حقيقيين لأقرانهم من الاحزاب الأخرى، وهذا يعني ان الاحزاب السياسية في دول العالم الاول تعتمد على نوعية الاعضاء المرشحين وليس على كميتهم في صراع الوصول الى السلطة، حيث يتم ايضاً اعطاء المناصب في الحزب والدولة الى الاعضاء البارزين لترجمة آيديولوجيته السياسية والفكرية الى واقع ملموس. ويعد هذا التصرف السبيل الوحيد الذي يجعل الحزب قادرا على تحقيق اهدافه التي تجسد طموحات أعضاءه وهي بحد ذاتها طموحات شرائح واسعة من المجتمع.
وليس من المنطق في العملية الديمقراطية ان تستخدم القوة وأساليب الترهيب والترغيب كوسيلة للوصول الى سدة الحكم، لان هذا التصرف يفسد عمل الاحزاب في ادارة مؤسسات الدولة ويقلل من فرص النجاح لديها مستقبلا، اما فشلها فسيكون تراكمياً، والفشل التراكمي يقود في طبيعة الحال الى الانهيار في المنظومة الحزبية أولاً ويقوض العمل المؤسساتي للدولة ثانياً. وعليه يجب التأكيد مرة اخرى على ضرورة تدريب الكوادر الحزبية فكرياً ومهنياً وتنمية الروح الوطنية ونكران الذات لديها وتأمين الحماية لها لكي تتمكن من ادارة مؤسسات الدولة بنجاح. وفي حالة النجاح يكون من حق تلك الاحزاب ان تحرص على الاحتفاظ بالسلطة الى اطول فترة ممكنة من خلال ما تقدمة من عمل ايجابي فكري ثقافي، فكري اقتصادي، فكري علمي، وفكري سياسي تتجسد فيه كل انواع التطور والتحضر والمدنية التي تواكب العصر وتناغم آمال وتطلعات الجيل الجديد الذي يعيش تحت وطأة تأثير ثقافة القرية الالكترونية.
3. متابعة الاجهزة التنفيذية للدولة ومؤسساتها: تعد الاحزاب السياسية في الدول المتقدمة بمثابة اجهزة رقابية على اجهزة الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون لأعضاء الاحزاب موقف حازم تجاه أي تقصير أو اهمال من قبل القائمين على ادارة اجهزة ومؤسسات الدولة، وتأخذ تلك المراقبة والمحاسبة التي تقوم بها الاحزاب اشكالاُ متعددة منها: توجيه الانتقادات المباشرة للمخالفين والمقصرين من خلال وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، شريطة ان لا يكون ذلك لدواعي شخصية أوحزبية، وكذلك الايعاز الى كوادرها التي تعمل في تلك المؤسسات للتصدي الى ممارسات سوء استعمال النفوذ والسلطة والعبث بالمال العام. وتكون متابعة الاحزاب للمخالفات وسوء استخدام السلطة سواءً كانت في صف المعارضة او في موقع المشاركة في ادارة المؤسسات، بهدف تصحيح مسار الحكومة المنحرف وفضح الممارسات الخاطئة وتأليب الرأي العام ضد الحزب الحاكم في حالة الاستمرار وزيادة زخم الوضع المنحرف في مسيرة الدولة. وفي هذه الحالة يتجه تأييد الرأي العام من الحزب الحاكم الى الحزب المعارض وهذا ما لا ترضاه الاحزاب السياسية على نفسها إذا ما ارادت الاستمرار في الحياة السياسية الديمقراطية التي تتوفر فيها فرص وآفاق كبيرة لبناء نظام سياسي ديمقراطي تتحقق فيه العدالة والديمقراطية.
4. العمل على تعزيز الصلات بين الجماهير والسلطة: بما ان الاحزاب السياسية تهدف في عملها الى تجميع رغبات الجماهير ومصالحها وتسعى لنقلها الى صناع السياسة العامة، لذلك عليها فتح قنوات اتصال فاعلة بين الجماهير والقيادات بطريقة تهدف الى توليد قوة سياسية من خلال توجيه وتعبئة الجماهير بما يخدم الصالح العام سواءً كانت الاحزاب في السلطة او في صفوف المعارضة التي تستخدم الجماهير كورقة ضغط لكي تستقيم العملية السياسية على المستويين الداخلي والخارجي.
5. الاستعداد والقدرة على تسوية الصراعات: حين تكون الاحزاب السياسية تمثل شرائح اجتماعية مختلفة، ذات مصالح وطموحات متعارضة ومتقاطعة، فإنه ستقع عليها مهمة مضاعفة، خاصة اذا ما كانت تتنافس بشكل سلمي ووفق القانون، تتجسد في العمل الفاعل على تخفيف حدة الصراع والتعارض بين شرائح المجتمع الواحد من خلال ايجاد حلول وسط لتسوية الخلافات وبما يضمن لكل شرائح المجتمع حقوقها وأهدافها في اطار المصلحة العامة للدولة والمجتمع. ومن اجل الوصول لهذه الغايات لا بد من وجود آليات وبرامج جادة عامة يتحقق في ظلها اكبر قدر ممكن من تقريب وجهات النظر بين الشرائح المختلفة، والذي ربما يفضي في نهاية المطاف الى نشوء تكتلات وتحالفات من احزاب مختلفة يؤدي ليس فقط الى تحقيق اهداف ومصالح الاحزاب وإنما تحقيق طموحات وأهداف شرائح المجتمع المختلفة، وحينها تتوافق اهداف الديمقراطية ووظائف “الاحزاب السياسية”.
الديمقراطية ووظائف “الاحزاب السياسية”
اترك تعليقا