منذ أن جاء نابليون بونابرت أرض مصر في بدايات أعوام 1800 بدأ حرب الحداثة ضد المنطقة وثقافتها، لتصل قمتها مع ابتكار واختلاق “الدولة القومية” من قبل نظام الهيمنة العالمي ورائدتها بريطانيا حينها وبعدها أمريكا، وإنشاء الشركات والوكالات الرأسمالية العالمية ونهب الموارد الاقتصادية_الجيولوجية يتصدرها النفط والغاز. مع ملاحظة أنه بعد إنتهاء الحرب الباردة وإنهيار الاتحاد السوفيتي إنتقلت الحرب الساخنة في منطقتنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى مراحل أعلى وهي مستمرة لليوم وبأدواة وأشكال مختلفة.
من الصحيح القول، أن أكبر ضربة تم توجيهها لعموم الإنسانية ولثقافة المنطقة وقيمها التاريخية والحضارية والمجتمعية والأخلاقية لشعوب وأمم المنطقة، كانت عبر نموذج الدولة القومية التي تم فرضها من الخارج قبل النظام العالمي المهيمن لتحقيق الربح الأعظمي عبر الأجهزة والأدواة الاحتكاري فيها، وهذا الحقيقة نستطيع التأكد منها في كل لحظة، إذ مامن دولة قومية إلا وهي في حالة حرب مع أخرى ومع شعوبها ومجتمعاتها داخليًا، و من خلال الصراعات والحروب اليومية والممارسات والسلوكيات الإجرامية عبر العديد من تنفيذ حملات الإبادات والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي التي حصلت وتحصل، والاغتراب عن الحقيقة الإجتماعية والعمالة للنظام المهيمن، بالإضافة إلى المعارضات التي ظهرت في حضن نظم تلك الدول القومية والتي تجسد أفكار وسلوكيات و حالات عمالة وتبعية للخارج بدرجات أكثر سلبية حتى من سلطات تلك الدول القومية.
في فهمنا لظاهرة الدولة القومية علينا عدم تجاوز ثلاث بنود مهمة:
1_تدمير التوازن المقبول بين القرية والمدينة وإضعاف الزراعة والمجتمع الزراعي وإفراغ القرى من سكانها بغرض تمكين الطبقة الوسطى و تأمين التحكم الطبقي للبرجوازية المعنية بالسلطة السياسية مباشرة وبهدف تحقيق التحكم و الهيمنة على الحياة وتوفير اليد العاملة الرخيصة وخلق جيوش من العاطلين عن العمل لإستخدامهم عند الحاجة وكيفما تشاء السلطة .
2_استتغلال الثورة الصناعة وبعدها الثورة التكنولوجيا وجعلهم أدواة وتقنيات للهجوم الأيدولوجي والسياسي والصحي، و كذلك في الصراعات والحروب التي هي المسؤولة عن كثير من السلوكيات المضطربة الناشئة والمدمرة كتغير المناخ وجفاف الأنهار والبحيرات وارتفاع درجات الحرارة والسيول والأوبئة والأمراض كما حالة كورونا التي هي من نتائج النظام العالمي الحالي المطبق.
3_ الطبقى الوسطى وأحيانًا العائلية و القبلية المنسوجة مع البيروقراطية في معمل الحداثة للنظام المهيمن، وهي تعتبر السيطرة على المجتمع التقليدي من أولوياتها وعلاقتها مع الحداثة مبنية على الإرتزاق والتواطؤ والعمالة وهي تتشبث بالنظام الخارجي كمسألة موت وحباة وهي الأرضية الإجتماعية والمؤسساتية والممهدة للفاشية المتمأسسة وهي بمثابة القوى المحتلة والاستعمارية المحلية فعليا فهي تطبق الاحتلال على المجتمع من الداخل. كمثال بعض القوى العائلية والعشائرية وتوابعها في المجتمع الكردي و تنظيم الأخوان وأخواتها وأبنائها من داعش والنصرة ومرتزقة مايسمى الجيش الوطني السوري والأئتلاف السوري المعارض وبعض الليبرالين في المجتمع العربي وأحزاب الدولة وبرجوازيتها في تركيا ( حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية وغيرهم).
من أولى النماذج التي تم تطبيقها على المنطقة كانت عبر تركيا الفتاة وثم عبر الاتحاد والترقي بفرض نموذج الدولة القومية التركية الفاشية كحالة وظيفية وأداتية للسيطرة عبرها ومن خلال جملة التناقضات وبؤر التوتر التي يتتواجد معها وبسسبها على الشعبين التركي والكردي وكذلك التحكم بالعديد من دول المنطقة وإضعاف التقاليد الديمقراطية لتحالفات لشعوب المنطقة وتمهيد الأرضية لقيام إسرائيل، وخلق الصراع الفلسطيني_الإسرائيلي لهدر وإضعاف الأمة العربية عبر إقامت دول قومية عديدة. وكان نموذج الدولة القومية التي تم شرعنتها دوليًا بإتفاقية لوزان 1923م وإتفاقية القاهرة 1921م، تتجسد بأوضح صورها في الإبادات والقتل و المجازر التي أرتكبتها بحق الأرمن والعرب، وكذلك في رفض وعدم القبول بالشعب الكردي واعتباره أتراك، علمًا أن تركيا تشكلت محليًا نتيجة تحالف الكرد والترك حسب إتفاقية الميثاق الملي عام 1919 في أجتماعي أو مؤتمري سيواس وأرزروم والتي على أساسها تم خوض ماتسمى في تركيا” حرب الاستقلال “. وزادت الدولة القومية التركية المستحدثة في التعبير عن نفسها بإصدار قوانيين التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بحق الشعب الكردي حيث كان هناك قانون “إصلاح الشرق” و”إسكان الشرق” والمقصود بها تهجير الكرد ومنع الثقافة و اللغة الكردية وتتريك المناطق الكردية في شرق البلاد والعمل للقضاء على المجتمع الكردي الممتد منذ 12 ألف سنة قبل الميلاد وإفنائه وإلحاقه بالمجتمع والدولة التركية القومية وتوزيعهم على مختلف مناطق الدولة التركية بحيث لايتجاوز تواجد الكرد في أي منطقة أكثر من 5% لتحقيق الإنصهار والذوبان عليهم. وتطبيق ذلك بكل الوسائل المتاحة، لذلك قاوم الشعب الكردي وخاض أكثر من 20 ثورة من 1925 وحتى 1938 لحماية وجوده على أرضه التاريخية ودفع أنهر من الدماء مازال تجري حتى اليوم ضد الدولة التركية التي تحاول القضاء على كل ماهو كردي في أي مكان يتواجد فيه الإرادة الكردية الحرة. ورغم سعي القوى الكردية إلى الحل الديمقراطي للقضية الكردية إلا أن الدولة القومية التركية ومنطقها وذهنيتها وتبعيتها للخارج ودورها الوظيفي لاتعطي المجال لأي حلول سلمية وديمقراطية.
ما يستنفذ الأمة العربية الكبرى شقيقة الأمة الكردية و يستهلك ثقافتها وإمكانياتها وطاقاتها أكثر من الصراع الفلسطيني_الإسرائيلي هو حسابات الدويلات القوموية الأثنين والعشرين على السلطة وتجاذباتها وترتيباتها، وتناقضاتها الجانبية، وتكاليفها الجنونية، في الوقت التي تأنوا شعوبها متخبطة في أزماتها وفقرها وجهلها وعدم وجود العدالة والديمقراطية والحرية وتمكين المرأة في أغلبها، وهي مفتوحة للتدخلات الخارجية ولإنتشار الإرهاب والأوبئة فيها. في حين تستعرض السلطات وطبقتها المخملية مظاهر الأبهة والجلال والثراء في عروض استعراضية يتجاوز ماكان يفعله النماردة والقياصرة والسلاطين في غابر الأزمان أيام العبودية والرقيق. وما يمد هذه الحالة بالقوة الشرعية والإيدولوجية هي الثيولوجيا الجديدة أو الدويلات القومية التي تعد إلهًا علمانيًا جديدًا، في حين أن مظاهرأمتثالهم لآلهتهم القديمة زائف ومحض كذب وكلام وخداع وتمويه.
لقد قامت بريطانيا في بدايات القرن العشرين ولحساباتها وللتحكم بطريق الهند حينها واستملاك الموارد النفطية وبسط الرقابة على الإمبراطورية العثمانية بإيجاد وتطوير الدول القومية العربية دون اعتبار لإرادة الشعب العربي أولًا وللشعوب والأمم الأخرة في المنطقة. أما التظاهر بالإستقلالية والوطنية وأنها نتائج حركات ونضال قومي ووطني وحالة مقدسة وطبيعية تستوجب بذل الغالي والنفيس والنفس في سبيلها محض كذب وخداع و هي من ضرورات تقنية نظام الحداثة. أي أن الدول القومية المذكورة هي المؤسسات العملية والتنفيذية للهيمنة الرأسمالية العالمية المفروضة على المنطقة وشعوبها.
ومن الممكن رؤية الألاعيب والخدع نفسها في نشؤء الدولة القومية الفارسية أيضًا وبنحو مفيد ومليئ بالعبر والدروس. فالتقنيات والمهارة التي أكتسبها الفرس في فن الإدارة والسيطرة والتحكم منذ عهد كيروس و الامبراطورية البرسية وحتى عهد الحداثة الحالي ووجود القوموية الشيعية، قد طورها الفرس تأسيسًا على التواطؤ، وبالإمكان القول أنهم يتميزون بالقدرة التي تخولهم لمنافسة النظلم الصين الحالي في الإستفادة بشكل متداخل من تضليلات المدينة والحداثة وخدعها.
فبينما قام النظام في الصين بتمويه وطلاء وصقل أكثر أشكال الرأسمالية وحشية ونهبًا وتقديمها على أنها “الشيوعية”، فإن الإيرانيين الحداثويين كانوا مهرة و ناضجين لدرجة عدم الخجل والحياء من عرض وثن الدولة القومية( التي هي منتوج الرأسمالية) على أنها روحانية عظيمة باسم “الجمهورية الإسلامية”. ومن هنا تشكل إيران بوضعها الراهن الملموس أضعف نقاط النظام العالمي وتعتبر بمثابة مناطقها الرخوة . فترجح بذلك كفة احتمال عرقنتها(وقوعها بوضع شبيه بالعراق) أو سورينتها أو يمنينتها أو ليبيتها أو صوملتها أو آرستختها. فبالرغم من من تمثيلها الفاشية المؤسساتية مثلما حال كل الدول القومية الأخرى في المنطقة . لكنها تطيل عمرها بالإستفادة من نقاط ضعف الهيمنة الأمريكا والاتحاد الأوربي. أي أن إيران كغيرها من الدول القومية وهي تتخبط بين مخالب الأزمة وكماشتها، وهي مشحونة بطاقة كامنة أكثر من المناطق الأخرى و قادرة على التمخض عن وضع متوتر و فوضوي شبيه بما عليه العراق وسوريا بل أكثر من ذلك وما حروبها وتمددها وأذرعها في الخارج سوى للحفاظ على الداخل وعلى نموذج دولتها القومية الفارسية بلبوسها القوموية الشعية .
وعليه أن أمثلة الدول القومية في المنطقة مثل تركيا وإيران والعراق وسوريا و أفغانستان وعقم الصراع الفلسطيني_الإسرائيلي واتفاقيات إبراهيم أو أبرهام المفروضة ووضع ليبيا واليمن وغيرهم……، تظهر بجلاء ووضوح مدى عقم الدولة القومية وبعدها عن حل اي قضية وطنية وتأثيراتها في أوضاع الفوضى والأزمة، وما نمت عنها من خراب وتدمير وحروب وإراقة الدماء وإسالت الدموع ليس على صعيد منطقتنا بل على الصعيد العالمي. ولقد برهنت الدول القومية أنها ليست مجرد أكثر وسائل الحكم والسلطة والسيطرة جورًا وظلمًا بالنسبة للمجتمعات والشعوب، بل أنها مصدر العقم والإنسداد ذلك أن الدولة القومية الممزقة لنسيج المنطقة الثقافي، ترمز إلى أفظع كارثة تم التعرض علها على مدار التاريخ البشري.
ولن نستطيع حل أي قضية في المنطقة مالم نتجاوز منطق وتفكير وذهنية الدولة القومية الفاشية الإلغائية التي هي في تناقض صريح مع ثقافة المنطقة وشعوبها، ومالم نستند إلى ثقافة المنطقة وأبعادها من التسامح والعيش المشترك وأخوة وأخوات الشعوب وحكمة وفلسفة المجتمعات و ممارسة السياسة الديمقراطية الحرة التي تعطي للحياة جمالها وكرامتها وأخلاقياتها.