الحزب الشيوعي العراقي (1)
87 سنة..تضحيات دون مكاسب بمستواها!
أ.د.قاسم حسين صالح
في سجن الحلة،ستينيات القرن الماضي، كان هناك قسمان متلاصقان منفصلان..كبير خاص بالشيوعيين المدنيين وأنصارهم، وصغير خاص بالشيوعيين العسكريين والمحسوبين على الزعيم عبد الكريم قاسم.
كنت انا مسؤول القسم الخاص بالمدنيين، وبحكمها كنت التقي مسؤول القسم الخاص بالعسكريين.وحدث مرة أنني دخلت فرأيت في الساحة عشرات العسكريين..وتساءلت:لماذا لم يستلم الحزب الشيوعي السلطة وبين هؤلاء قادة ،غير جلال الأوقاتي آمر القوة الجوية وعشرات أن لم يكن مئات القادة العسكريين الشيوعيين؟!.
وكنت قبلها في سجن بغداد المركزي،بغرفة هي في الأصل مخزن ملابس ،تضم خمسة هم: مكرم الطالباني القيادي في الحزب الذي صار وزيرا في السبعينيات، ومدير الخطوط الجوية العراقية،وصباح خيري ،شقيق القيادي في الحزب زكي خيري..والعقيد عبد النبي آمر قوات المظليين، وأنا الذي رفضت طلب رئيس المجلس العرفي العسكري،شمس الدين عبد الله،بسبّ الحزب الشيوعي..فحكمني سنتين!
هناك..في تلك الغرفة الضيقة ،وعيني على العقيد عبد النبي، كانت بداية تساؤلي:لماذا لم يستلم الحزب الشيوعي السلطة؟
ووفقا لما ذكره حنا بطاطو في كتابه الثالث (العراق)..فان عدد الشيوعيين الذين زج بهم في السجون كان أكثر من عشرة آلاف شيوعي، وعدد القتلى في ( 8 الى 10 شباط عام 963) كان لا يقل عن خمسة آلاف بحسب تقديرات الشيوعيين ،فيما قدّر العدد مراقب دبلوماسي بألف وخمسمائة. ويشير حنا بطاطو الى أن العدد المعلن رسميا بإعدام(149) من الشيوعيين ليس صحيحا.ويذكر ما يسميها ” طرفة!” رواها العقيد محمد عمران،العضو السوري في القيادة القومية للبعث أثناء المؤتمر القطري السوري الاستثنائي للحزب عام ( 964) أنه قال :” طلب من أحد ضباط الجيش العراقي إعدام أثني عشر ولكنه أعلن أمام عدد كبير من الحاضرين أنه لن يتحرك إلا لإعدام خمسمائة شيوعيا،ولن يزعج نفسه من أجل أثني عشر فقط )..”ص: 304″.
فتاوى بالقتل
لم يكن قادة انقلاب 8 شباط 1963 وحدهم الذين لديهم نزعة الانتقام من الشيوعيين بل صدرت فتاوى بقتلهم من مراجع دينية شيعية برغم علمها ان غالبية المنتمين للحزب الشيوعي هم شيعة،وبينهم أبناء سادة (حسين الشبيبي،سلام عادل ،ابو العيس..)!.فقد اصدر الشيخ محمد مهدي الخالصي في الكاظمية فتوى هذا نصها:( الشيوعيون مرتدون، وحكم المرتد القتل، وان تاب، وان كان متزوجا وحكم الزوجة والاولاد، وان كان لديه اموال منقولة او غير منقولة).وصدرت الثانية من السيد محسن الحكيم في النجف..كانت ذاتها فتوى الخالص!
وللتاريخ فان هذين الأمامين الشيعيين استجابا لطلب متعصب طائفي أسمه (عبد الغني الراوي) ومنحاه الفتوى، فيما منعهم امام سنّي عن ارتكاب جريمة بشعة ينوي مرتكبوها حفر اكثر من احد عشر الف قبر..ولو انها كانت قد حصلت لكنت انا ومن معي في القبور!
ونعود نسأل:لماذا لم يستلم السلطة؟
أحدى الأجابات وضحت الآن..ان المجتمع العراقي مجتمع ديني يعدّ الشيوعية كفرا وألحادا،وانه لو استلم السلطة لأعلن الجهاد!.وهذا وارد، لكن السبب الرئيس هو أن الحزب الشيوعي العراقي كان يتلقى التوجيهات من الحزب الشيوعي السوفياتي، وأن الحزب كان قد فكر في استلام السلطة بعد محاولة اغتيال رئيس الجمهورية عبد الكريم قاسم(1959)..لكن الحزب الشيوعي السوفياتي رفض ، لا لأمور تتعلق بالعراق،بل لتفاهمات دولية تخص موقف الدول الكبرى من الشرق الأوسط!.
الحزب الشيوعي بعد التغيير.
ما قلناه اصبح تاريخا ،والأهم هو حاضر الحزب ومستقبله..ليس في استلام السلطة لأنها لم تعد هدفا له لأعتبارين:الأول..أنها غير ممكنة عمليا، ثانيا ..ان الديمقراطية ، لا تبيح لحزب واحد ، او هكذا يفترض ، أن ينفرد في السلطة.
ففي حاضره،كانت على الحزب مآخذ سياسية وثقافية وأخرى تتعلق بموقفه من االشباب والشيوعيين القدامى.
سأعيد هنا موقفا يؤكد ان الحزب كان يعتمد التطبيق النصي للماركسية،نوجزها بالآتي:
في العام 2004 ،كنت اتمشى مع صديق في ساحة الاندلس فصرنا قريبين من مبنى مقر الحزب الشيوعي العراقي ، فقال لي : الا تحن الى جماعتك أيام زمان ؟ قلت : بلى والله احنّ. ودخلنا المقر.
كانت قاعة الجلوس أشبه بمقهى شعبية..كرويتات بسيطة مفروشة بحصران من الخوص ، فقلت في نفسي : يا سبحان الله ، مكتوب على البرولتاريا ان تجلس على حصران الخوص من زمن ماركس الى يوم يبعثون.
نظرت الى أعلى الجدار فوق رأس “القهوجي ” فرأيت صورا” كبيرة لكل من ماركس و انجلس ولينين، وكأنهم يحّيون الضيوف القادمين الى المقر . تغير مزاجي تماما” فطلبت من صديقي ان يأتي لي بـ ” الرفيق ” المسؤول .. فجاء .
قلت له : يبدو انكم ما تزالون تعيشون مزاج الخمسينيات في وسائل تثقيفكم، وان المسؤولين عن الثقافة عندكم من الذين صار المستقبل وراءهم ، اعني ، تجاوزت اعمارهم الخمسين والستين ، وانهم ليسوا على دراية بأن النظام السابق حكم العراق ( 35 ) سنة ، وان جيلا” عراقيا” كاملا” كان لايعرف عن الشيوعيه شيئا” الا كونها ” ضد الدين ” ،وأن هذا الجيل يشكّل أكثر من نصف الشعب العراقي .
تساءل بشيء من عدم الرضا : خير أستاذ .. ؟
قلت له : لو ان شابا”من هذا الجيل جاء وجلس هنا وسألك : من هذا وذاك ؟ ستجيبه : هذا ماركس العظيم ..الماني واضع النظرية الماركسية ، وذاك لينين الخالد.. روسي ابو الثورة البلشفيه ، وتظل تشرح وتنّظّر له عن افكارهم وشعارهم ” يا عمال العالم اتحدوا ” فهل هذا أفضل ام انكم لو وضعتم صور : فهد وسلام عادل وجمال الحيدري… وحين يسألك فتجيبه بأن هؤلاء قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين اعدموا من اجل ان يكون وطنك حرا” ، وان تكونوا انتم جيل الشباب الذين ضاعت أعماركم في الحروب والكوارث ..تكونوا سعداء مرفهين ؟.
ايهما اوقع بالله عليك ، ماركس الالماني ولينين الروسي ( الذي قد يخجل الشاب ان يقول لك : وما شأني بهما وأنا الخريج العاطل في بلد الخيرات ) ام فهد وسلام عادل وجمال الحيدري ،الذين ضحّوا بحياتهم من اجل العراق والعراقيين ، وكانوا لمّة واحدة من السنّة والشيعة والعرب والكورد والمسلمين والمسيحيين .. ؟ .
أسفي انكم ما تزالون لا تجيدون فن الدعاية ، واسفي انكم تجيدون هضم الثقافة لكنكم لا تجيدون فن التثقيف .
ربت بيده على كتفي وقال: دكتور..الأسبوع القادم سيكون الذي تريده.
وحصل..استبدلوا الصور..لكن الذي لم يحصل انهم لم يتبنوا الشباب رغم اننا اسدينا لهم النصيحة قبل ستة عشر عاما، وكررتها عليهم يوم وجدت جمهور المحاضرة التي قدمتها في مقره كانوا بالمطلق من الذين تجاوزوا الخمسينات..اي من الجيل الأقل حجما في المجتمع ومن الذين وضعوا المستقبل وراء ظهورهم.
شباب تشرين
لم يكن للحزب الشيوعي العراقي دور بداية تظاهرات واحد اكتوبر/تشرين اول 2019، ما أثار لوم،عتب،استغراب،استياء،الكثير من محبيه،وأدانة وسخرية وتعليقات غير مهذبة من آخرين.وما يهمنا هنا ان موقفه هذا كشف عن حقيقة ان بين الحزب وقطاع الشباب فجوة كبيرة.
ولأن من عادتي ان استطلع الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي في احداث كهذه،ولأن الحزب الشيوعي بقي متفرجا على المشهد وكأنه ينتظر ما ستؤول اليه الأحداث، فقد كتبت في حينه ،الآتي:
(تساؤل الى الحزب الشيوعي وقوى اليسار:
في ثورات الشعوب ،في انتفاضات المقهورين، تكون القوى اليسارية في المقدمة..فلماذا اختفت في تظاهرات سالت فيها دماء الشهداء في واحد اكتوبر، تشرين اول؟)
كانت الغالبية المطلقة قد ادانت هذا الموقف..اليكم نماذج منها:
ليس للقوى اليسارية جمهور من فئة الشباب،ولا تمتلك قاعدة جماهيرية،
• مستفيدون وعندهم حصة بالحكومة..وبعيدون عن الفقراء،
• باعوا المباديء واشتروا الكراسي،
• دعهم لتنظيراتهم دكتور فهم بعيدون عنّا نحن الشباب،
• لم تعد لهم مكانة كسابق عهدهم ،
• الحزب غيّر حتى ايديولوجيته، فقد راينا قيادات شيوعية تمتدح اميركا ، والكثير منهم يمدحون تيارات اسلامية راديكالية،
• لأنهم تحت خيمة سائرون،
• عيب من السيد..خاف يزعل عليهم!.
شهادة للتاريخ
منذ بداية التظاهرات في شباط 2011،شارك الحزب فيها وقام هو بتنظيم عدد منها.وفي اضخم تظاهرة مليونية عام 2014 كان للحزب دور رئيس شهدته بنفسي حيث كنت يومها مشاركا في التظاهرة بساحة التحرير.وكانت قيادات من الحزب تقف على المنصة ولحظة رأوني مدوا ايديهم لي لاصعد معهم والقي كلمة..وحين نزلنا توجهت كوادره وانصاره نحو جسر الجمهورية وحالت قوى الأمن دون عبورنا..واستمر الحزب ينظّم ويشارك في تظاهرات الاحتجاج بعضها كانت تضم كوادره ومحبيه فقط..رغم مخاطر تعرضوا لها وتهديدات تحدوها..الأمر الذي اثار الاستغراب كيف لا يشارك الحزب الشيوعي في أجرا وأشجع واخطر تظاهرة لا تقف وراءها جهة سياسية..بل جماهير شبابية في عشر محافظات تجمعهم ..صرخة مقهورين ؟!!
- لمناسبة ذكرى التأسيس