الحراك الأهلي وليس المدني
صباح علي الشاهر
المدني نسبة للمدينة التي منها أشتقت مفردة التمدن والمدنية، لكن المدني الذي هو إبن المدينة لا يمثل الشعب كله، هو لا يمثل البدوي ( إبن البداوة) ، ولا الريفي ( إبن الريف) .
قيم المدينة تختلف عن قيم الريف، وكذا عن قيم البداوة، وإختلاف القيم بإختلاف الظروف البيئية، ومستلزمات العيش، هذا الإختلاف في القيم أوجد ما يشبه التضاد عبر العصور بين المدينة من جهة، والريف والبادية من جهة أخرى، فلا إبن المدينة يهضم قيم إبن البادية وإبن الريف، التي يجدها قيما ظلامية، غارقة في التخلف، ولا إبن البادية وإبن الريف يقتنع بقيم إبن المدينة التي يراها مثال الميوعة ، والإنفلات ، وربما الإستتهتار والإباحية، وهذه الرؤية جعلت كل من الطرفين ينظر بإستصغار وإستهانة إلى الطرف الآخر، لذا فمن الصعب جداً على المدني الادعاء بإنه يمثل الريفي أو البدوي، مثلما من الصعب أكثر أن يدعي البدوي أو الريفي بإنه يمثل المدني .
وبعيداً عن الشعبوية التي يدعيها البعض لفظاً ، فلا هذا يقتنع بذاك ولا ذاك يقتنع بهذا، ولعل النكات والنوادر التي يطلقها المدني على الريفي تبين لنا درجة الإستخفاف التي يحملها المدني للريفي في أعماقه ، والتي تتسرب رغماً عنه بشكل مغلف بالمزحة ، هذه المزحة التي لا تستطيع حجب حقيقة المشاعر .
في بداية تشكل المدن، وإلى فترات طويلة، طيلة مرحلة العبودية والإقطاع وبدايات الرأسمالية كانت المدن تعتاش على الريف، وحتى عندما تطورت الصناعة، ظلت المدينة تعتاش على الريف، فما ينتجه الريف من صوف وقطن وشتى المحاصيل، تحوله المصانع إلى بضاعة سواء كانت منتجات غذائية أم إستهلاكية مختلفة .
كان الريف ينتج غذاءه، وكساءه، يغزل ويحوك، ما يلبسه وما يتوقى به برد الشتاء، ويبني بيته من طين الأرض بعد معادلته بالتبن، ويستثمر جريد النخل وجذوعه وما يتيسر من خشب الشجر والقصب لإحتياجاته المتنوعة. كان إعتماده على المدينة ضئيلا، فالطاقة ، للتدفئة وطبخ الغذاء، كان يستخرجها من بيئته ، من روث المواشي ، وكرب النخيل وسعفه، وحطب البرية، كانت علاقته بالمدينة ( السوق ) لا تتعدى تبادل البضاعة، سواء قبل إكتشاف النقود أم بعدها، فالمدينة لم تكن سوى سوق، سوق للتبادل، وحرفيين يعتمدون في الأكثر على تلبية إحتياجات الريفي ( الفلاح)، وفي الأقل على إحتياجات القلة من سكان البيوت القليلة المتحلقة حول السوق.
فيما بعد تضاءل دور الريف، وتغيرت الصورة، أصبح الريف معتاشا على المدينة، أصبح دور الفلاح كدور العامل إذا كان يعمل في مؤسسات زراعية إنتاجية كبرى، أو كدور الحرفي إذا كان يعمل في حقله أو مزرعته، وإذا كان كبار الإقطاعيين في الريف سابقاً يتحكمون بالمدينة أضحى كبار الرأسماليين يتحكمون بالمدينة والريف معاً .
المدينة لم تخلق قيمها بمعزل عن القيم التي فرضها الرأسمال بنوعيه المالي والصناعي ، عبر مؤسساته الكبيرة والقوية، كان صاحب الدكان الصغير، أو الخان، الذي يقرض الفلاح قبل موسم الحصاد، وفق ما يسمى ( على الأخضر) ثم يستلم بعد الحصاد أكثر مما أقرض، بداية الإستغلال الربوي المصرفي، الذي أصبح من سمات المدينة، وأس نهضتها العمرانية والصناعية، والقانونية.
قيم المدينة تقضى بداهة على قيم الريف والبداوة ، وقيم الريف والبداوة إذا إستحكمت بالمدن تشوهها وتشوه قيمها، والمشكل هنا أن الرأسمالية تربط الريف بها، وتحول الأرض إلى مصنع ، وبذا تقلل فرص الفلاحين الأحرار، وتساعد على الهجرة من الريف إلى المدينة، وحيث أن الدولة غالباً دولة المدينة، وهي مشغولة بالمدينة، وغير معنية بالريف الذي ينحدر سريعاً إلى الهاوية والعطالة ، لذا يكون غزو الريف للمدينة أمرا لا مناص منه .
يتصور البعض أن القيم الروحية ( الدينية ) نتاج البداوة والريف، وهذا أمر تدحظه الوقائع التأريخية، وواقع الحال، فالأديان نشأت في المدن، وليس البوادي، ولا حتى الجبال والسهول ، كل أنبياء الديانات السماوية أبناء مدن حضارية، وتجارية، إبراهيم من أور، وعيسى في بيت لحم ، ومحمد في مكة، والمراكز الدينية في أكبر المدن وأعرقها ، الفاتيكان في روما ، والحوزة في النجف، والأزهر في القاهرة .
الدين نتاج مدني، لا ريفي ولا بدوي، ورجال الدين أبناء مدن لا أبناء أرياف أو بوادي ، لذا جعل المدنية بمعارضة الدين أو الدينية ما هو في حقيقة الأمر سوى جهل فاضح بالدين وبالمدينة، ومن يتصورون هذا يسقطون ما حدث في أوربا على واقعنا، وهو إسقاط مخل ، علماً أن ماحدث في أوربا في عصر التنوير والنهضة ، إنما هو ثورة المدينة على الريف ، وثورة الرأسمالية على الإقطاعية التي كانت داعمة للكنيسة ومتحالفة معها.
البعض يتصور المدني معاكس للديني أو العسكري، والأمر ليس هكذا، فالعسكري شخص أو مؤسسات يقابله الأهلي، شخص ومؤسسات، فيقال هذا عسكري وهذا أهلي، مؤسسة عسكرية ومؤسسة أهلية ، مصنع عسكري ومصنع أهلي مثلما يقال رجل دين، ومؤسسة دينية، علماً أن الدين فكر ومؤسسات نتاج المدينة، مثلما السوق، والرأسمالية، وكافة النظم والأعراف التي تكونت بفعل السوق، وبنتيجته .
المجتمع في أي بلد يتكون من أبناء الريف والمدن ، السهل والجبل والبادية . وهؤلاء جميعاً يندرجون فيما يسمى المجتمع الأهلي ، من الأهل ، أهل البلد ، وبالتالي الأهالي، لذا فالحراك الذي يمكن أن يمثل الشعب كله يبنبغي أن يكون إسمه ( الحراك الأهلي، وليس المدني) ، هذا إذا أريد له أن لا يمثل المدينة فقط ، بكل ما لها وما عليها ، وإنما يمثل البلد كله.