الجزء 1/ أحداث الموصل “ثورة الشواف” سنة 1959 / مقاربة جديدة
علاء اللامي *
مرت يوم الأحد، 20 أيلول، الذكرى الخامسة والخمسين لإعدام اثنين من قادة الثورة الجمهورية العراقية 14 تموز 1958 وهما رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي وعدد من زملائهما على يد رفاقهم في الثورة والسلاح، بتهمة التخطيط والإعداد للتمرد المسلح الذي اندلع في مدينة الموصل في شهر آذار 1959 وقاده العقيد عبد الوهاب الشواف القيسي ( قُتل خلال التمرد ). وبهذه المناسبة المؤسفة، أقدم قراءةً في عدة مقالات أرجو أن تكون محاولة جديدة ومنصفة في مقاربتها لهذا الحدث الخطير والمحزن و في تناولها لدلالاته التي طبعت بميسمها ما تلاه من تفاصيل التاريخ العراقي الحديث.
يُعرف هذا الحدث شعبياً في العراق، وعلى طريقة سائدة وغير علمية، تُطلق بموجبها كلمة “ثورة” على جميع الانقلابات العسكرية والتمردات المسلحة بـ “ثورة الشواف”، نسبة إلى العقيد الركن عبد الوهاب الشواف الذي قاده. وهو “تمرد مسلح عسكري ومدني” كما يصنفه الباحثون في علم الاجتماع التاريخي كحنا بطاطو الذي يستعمل أحيانا عبارة وصفية أخرى هي”ثورة الموصل” وحتى “إنقلاب الموصل” إلى جانب هذا التصنيف، اندلع في مدينة الموصل ضد الحكومة المركزية الجمهورية ببغداد التي كان يقودها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وتدعمها بقوة قوى اليسار العراقي ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي آنذاك. وقد خضع هذا الحدث الكبير والمهم لقراءات أغلبها متعسف ومنحاز إلى أحد جانبي المتراس، فالحكومة الجمهورية وأنصارها نظروا اليه كتمرد رجعي يميني معاد للدولة والمجتمع وللانقلاب الجمهوري في 14 تموز 1958 وإصلاحاته الجذرية و مدعوم من قوى الغرب الإمبريالي والرجعية العربية ممثلة بالنظام الناصري في مصر، ومقود من قبل ضباط متعطشين للسلطة والمال تحالفوا مع زعامات إقطاعية يمينية وقومية ضربت الإصلاحات الجمهورية مصالحها. أما أنصار هذا التمرد من التيارين القومي والمحافظ فقد نظروا إليه كانتفاضة وطنية جاءت ردا على دكتاتورية قاسم وتفرده وتساهله أو تواطئه مع الحركة الشيوعية لحرف الثورة التموزية وفق رأيهم عن مبادئها الحقيقية وأصبحت معادية للهوية الوطنية والقومية العربية للعراق.
واضح أن كلا النظرتين إلى هذا الحدث جزئية و متحزبة وأيديولوجية ولا تصمد أمام النقد والتحليل العلميين، رغم إنهما لا يخلوان تماما من نثار الحقائق وبعض المقدمات الصحيحة، إنما يمكن فهم و تفهم وتعليل هاتين النظرتين / القراءتين تعليلا تاريخيا وتأريخيا يقوم على تفسيرهما في ضوء معطيات التغيير العميق و الصراع “السياجتماعي” العنيف غالبا في تلك الأيام و سيادة الانحياز الأيديولوجي الفظ والاستقطاب السياسي والفكري الحاد الذي فعَّلته وجذَّرته الأحداث اللاحقة للانقلاب الثوري بين اليسار “ممثلا بالحزب الشيوعي العراقي ومنظماته الجماهيرية والنقابية”، وكان هذا الحزب – كما أسلفنا – هو المساند الأقوى للجمهورية العراقية الفتية وزعيمها قاسم تأييدا يقال فيه وعنه الكثير، و بين الجهات والقوى المتضررة من الجمهورية وقوانينها – خصوصا قانون الإصلاح الزراعي الذي جرد الإقطاعيين من أراض شاسعة – والتي عبرت عن مصالحها وأهدافها قوى سياسية محافظة وقومية يمينية في مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي والقوميون العرب وحزب الاستقلال الذي ترتبط قيادات مهمة فيه بحركة الإخوان المسلمين التي كان يمولها التاجر الموصلي المعروف عبد الرحمن السيد محمود.
غير أن هذا التفسير لهاتين القراءتين يظل قاصرا إذا احتكم لما يقوله الطرفان الاجتماعيان المتصارعان – أو التياران المعبران عنهما الشيوعي والقومي- عن نفسيهما، أو ما يقوله كل طرف عن الآخر وعن الأحداث ذاتها، و لا بد والحالة هذه من الغوص في طبيعة الأحداث ومدلولاتها الاجتماعية التاريخية، والنظر بدقة وعمق لأشخاصها وشعاراتها وتفاصيلها بعينين نقديتين تحاولان سبر أغوار الحدث وتجلياته ومدلولاته وصولا إلى تقديم قراءة أقرب إلى الواقع وإلى حقيقة و جوهر ما حدث، وإنصاف قيادات مهمة اتُهِمت وزرا أو تورطت تحت ضغط المجريات وعن غير وعي ولا تصميم في تلك الأحداث.
ونحن هنا، ومن خلال هذه القراءة النقدية التحليلية، لا نزعم اكتشاف أو الكشف عن أسرار جديدة حول هذا الحدث أو أننا نجحنا أو في سبيلنا إلى النجاح في تقديم تلك القراءة المطموح إليها بل سنقدم محاولة تتساءل وتحلل في هدي هذه المنطلقات والرؤى لا أكثر، وسنعيد ترتيب الأحداث وتسليط الضوء على تفاصيل جرى التعتيم عليها أو إساءة قراءتها بهدف تقديم رواية مختلفة نرجو أن تكون منصفة وموضوعية على اعتبار نؤمن به وهو أن الإنصاف هو التعبير الأخلاقي والمنتوج الأكيد للموضوعية المشروطة بآليات وشروط علمية، حول هذا الحدث الخطير وتقديمه للجيل العراقي الشاب، والذي يفصله عن الحدث زمن طويل و ركام هائل من القراءات والقرارات المتحزبة والمتعسفة. وسنبدأ بإلقاء نظرة متفحصة على الشخصيات الخمس التي لعبت أو اتهمت بلعب أدوار رئيسية في هذا التمرد:
– عبد الوهاب الشواف القيسي: آمر اللواء الخامس في الموصل، و رغم أن التمرد ارتبط باسمه، ولكنه كان آخر من انضم إليه، وهو أحد مؤسسي تنظيم “الضباط الوطنيين” تحول اسمه لاحقا إلى ” تنظيم الضباط الأحرار” بحسب البعض، وهناك رواية أخرى تفصل بين التنظيمين. و كان الشواف معروفا في وسطه العسكري والاجتماعي بكونه يساريا و ( وكان معروفا حتى قبل الثورة بأشهر قليلة بتعاطفه مع الشيوعيين . بطاطو 194/3 )، وكان من أسرة غنية وزاهدا في الزعامة والسلطة بشهادات قوية من بينها شهادة الزعيم اليساري عبد الفتاح إبراهيم المؤيد لقاسم والذي خدم في الجيش تحت إمرته.
– ناظم الطبقجلي : آمر الفرقة الثانية في كركوك، ضابط بغدادي من أصول موصلية، قومي عروبي على تدين شخصي “طقوسي” قوي إلى جانب وطنية سياسية قد لا تقل عن ولائه القومي العروبي، و تُسَجل له مأثرتان حتى بشهادة أعدائه، الأولى هي مأثرة منع السفير البريطاني من اختراق الموكب الملكي العراقي و إيقافه داخل سيارته مستعملا سيف الاستعراض العسكري وقد اضطر السفير البريطاني يومها إلى تقديم اعتذار علني له. كما يسجل له رفض وعرقلة تنفيذ أوامر الوصي على العرش الهاشمي عبد الإله بإطلاق النار على جماهير انتفاضة الشعبية سنة 1952 والتي قادها اليسار وهتف المتظاهرون فيها للمرة الأولى بسقوط الملكية و انتهت بإسقاط حكومة مصطفى العمري وتشكيل أخرى برئاسة نور الدين محمود.
– رفعت الحاج سري : مدير الاستخبارات العسكرية في حكومة قاسم الجمهورية، و المؤسس الفعلي والأول لتنظيم “الضباط الأحرار”، كان يحمل فكرا قوميا عروبيا مع تدين شخصي “طقوسي” وسجلت له عدة إنجازات أمنية بصفته رئيس الاستخبارات حيث أنقذ عبد الكريم قاسم من أكثر من محاولة اغتيال. اتهم بالتخطيط للتمرد في الموصل وقيادته من بغداد ولكنه تحدى المدعي العام في “محكمة الشعب” ماجد محمد أمين أن يقدم دليلا ملموسا واحدا ضده فلم يفعل، وحتى الشهود الذين أحضروا ضده أنكروا شهاداتهم وقالوا بأنها انتزعت منهم تحت التعذيب و رغم ذلك حكم بالإعدام ونفذ فيه .
– و يجري زج اسم رشيد عالي الكيلاني ( زعيم ما يعرف بثورة مايس/ أبريل 1941 المناوئة لتبعية النظام الملكي الهاشمي في العراق لبريطانيا) في هذا التمرد، نتيجة خلط مقصود أو غير مقصود بين تمرد الموصل و بين ما يسمى ” مؤامرة الكيلاني “، فالأول حدث صباح 8 آذار ،1959، والثانية كان مقررا أن تتم ليلة 8 على 9 كانون الثاني / يناير 1959، وكشف عنها في اليوم ذاته أي بعد سبعة أشهر تقريبا على تمرد الموصل، وقد كشفت الاستخبارات القاسمية خطة انقلاب الكيلاني بوشاية بريطانية عبر السفير مايكل رايت نكاية بعبد الناصر وحلفائه القوميين العراقيين حسب إحدى الروايات الموثقة بشكل رصين ( هذه الواقعة يقفز عليها كتاب اليسار ويهملونها عمدا مع أنها غنية بالدلالات)، أو بواسطة اختراق موَّثق قامت به استخبارات قاسم لقيادة تنظيم المؤامرة أو بالأمرين معا. وقد صدر حكم الإعدام بحق الكيلاني، ولكن قاسم أصدر عفوا عنه ( كان قد تجاوز الثمانين من العمر) وعن زملائه ( سيشترك بعضهم لاحقا في الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963 ويشاركون في اغتيال عبد الكريم قاسم ورفاقه ) وسمح له – للكيلاني – بمغادرة العراق حيث أقام لاحقا في لبنان حتى توفي سنة 1965 ويُسَجل أنه لم يتعامل مع البعثيين والقوميين الذين استولوا على السلطة في 8 شباط سنة 1963.
وسوف نتوقف بشيء من التفصيل عند أدوار هذه الشخصيات في هذا الحدث خلال عرضنا لحيثياته. ولكننا سنعرض بشيء من الابتسار لأهم ملامح الوضع السياسي والاجتماعي العام الذي سبق تمرد الموصل. يتبع قريبا.
*كاتب عراقي