الجواهري الانسان..الشاعر..الوجود..مهندس القصيدة العمودية الحديثة بمضمار حداثوي شكل في قصائده موقفا فكريا من الحياة بقيمة تعبيرية فنية عالية..فامتلك هوية معاناته الفكرية ممزوجة بمعاناته الفنية المتمثلة بالتقنية الاسلوبية التي تتشكل عليها مستويات التجربة الجواهريةعبر مراحلها التاريخية…اذ اعتمدت لمرحلتها الاولى المحاكاة والمماثلة بشعراء استعار حناجرهم كالمتنبي والبحتري وابوتمام والمعري والشريف الرضي..مستقيا منهم اخيلتهم وتجاربهم فكان تشكيل الصورة عنده يعتمد خزينه التراثي الشعري..حتى مرحلة النضج التي ميزته مجددا امتلك خصوصيته وامتلك شعره خصائصه المتمثلة في النزعة الحسية في التشخيص والتصور الموازية لنزعة التجريد التي ما انفكت تهرب بخياله صوب دائرة الايهام والوهم..ففي قصيدته(اخي جعفر) يتكافأ التعبير والتفكير فتصبح الصورة بابعادها الزمانية والمكانية فكرة والفكرة بتجريدها الذهني صورة..وفيها يتداخل المنطق والتشكيل ليرسم لنا حركة النضال والاجيال..
ارى افقا بنجيع الدماء تنور واختفـــــــــــت الانجم
وحبلا من الارض يرقى به كما قذف الصاعد السلم
وكفا تمد وراء الحجاب فترسم في الافق ما تــرسم
وجيلا يروح وجيلا يجيء ونارا ازاءهــــــما تضرم
والجواهري في حديثه عن الطبيعة حديث بصيغة الاسقاط المتبادل بينها والانسان قيمة وغاية..فتكون عنده حياة ورؤية ورؤيا وموقف..
يا دجْلَة الخير: أدري بالذي طَفحتْ به
مجاريــــك من فــوقٍ إلــــــــــــى دُونِ
أدري علــــى أيّ قـــــــيثارٍ قد انفجرتْ
أنغامـــُكِ السمــّرُ عن أناتِ محــــــزونِ
أدري بأنك من ألــــفٍ مَضَتْ هَـــــــدراً
للآنَ تهزْينَ من حــــــــــــكمِ السلاطين
فالنداء هنا حركة زمنية تراكمت بتأثير الصور في وجدان الشاعر تراكما كثيفا مترابط الوحدات المتعانقة الافكار بنموها الزمني..والتكراريعني التوكيد وازالة الشك.. فضلا عن ذلك فان الجملة الفعلية قد غلبت على العبارة الشعرية فكانت اغلب قصائده تبدأ بافعال يفوق عددها الاسماء والصفات حتى انه في قصيدته(اخي جعفر)يبرز النمط الفعلي وينعكس على القافية فالقصيدة تقع في ستة وتسعين بيتا شكل الفعل قوافي سبعة واربعين بيتا ..
أتعلم أم أنت لا تعلم …بان جـــــــــــــراح الضحايا فمُ
فم ليس كالمدعي قولةً …وليس كآخــــــــــر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع …اريقوا دماءكم تُطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين …أهينوا لئامكم تُكــــــــرموا
وفي قصيدته(ابو العلاء المعري) التي تكونت من واحد وتسعين بيتا كانت قافيتها الفعلية منحصرة في اربعة وعشرين بيتا ..
قِفْ بِالْمَعَـرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَـا وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَـا
وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبَّـبَ الدُّنْيَا بِحِكْمَتِـهِ وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا مِنْ رُوحِهِ سَكَبَـا
وَسَائِلِ الحُفْـرَةَ الْمَرْمُـوقَ جَانِبهُـا هَلْ تَبْتَغِي مَطْمَعاً أَوْ تَرْتَجِـي طَلَبَـا؟
اما مقصورته التي قال عنها انها ستبقى ولو فنيت جميع اشعاري..فقد شكلت عملا فنيا ناضجا امتلك شاعرية عالية سواء في الاداء(اللغة الشعرية)ام في الدلالة(الصورة الشعرية) مع ترابط منطقي متماسك بين اجزائهاة الفنية..المقصورة الجواهرية تجسد سلطة مبدعها..اذ (الانا)المتكلم و(الانت)المخاطب..
برغم الاباء ورغم العلى ورغم انوف كرام الملا
ورغم القلوب التي تستفيض عطـــــــــفا حوط الحمى
فالنص يبدأ بحوار داخلي مع الذات اذ تتحدث (الانا) الجواهري وتكشف عن مدى الصراع النفسي الذي تعانيه فتنفجر صارخة بوجه الحكام الجائرين..
بماذا يخوفني الأرذلون …. ومما تخاف صلال الفــــــلا
أيسلب منها نعيم الهجير ، ونفح الرمال وبذخ العـــــــرا
بلى ان عندي خوف الشجاع وطيش الحليم وموت الردى
وتستمر المقصورة معبرة عن واقع مغمس بانفعال صاف وروح وقادة لمعانقة الانسانية ثم يعرج بغنائية السلام على الهضاب والشطين والجرف والمنحنى..
سلام على هضبات العراث وشطيه والجرف والمنحنى
وتنتهي بما يشبه الوداع..
سلام على بلد صنته واياي من جفوة او قلى
كلانا يكابد حر الفراق على كبدينا ولذع النوى
وكل بغد الى طيه لنا عند غايتها ملتــــــقى
لقد وجد الجواهري في طول القصيدة قوة شاعريته وخصب خياله واستحواذه على اداته وقدرته على التصوير..لذا اقترن بالمقصورة عدد اخر من القصائد طولا وتقسيما منها(تنويمة الجياع) التي تالفت من اثنين ومئة بيت قسمها الشاعر الى عشرة مقاطع..كلها عبرت عن احداث ارتبطت بحركة التغيير في المجتمع الانساني كاشفة عن قدرة شعرية فريدة..
علوان السلمان