د. عماد الدين الجبوري
الثالثة ثابتة: ثورة الشعب السلمية
إن جموع المظاهرات الغفيرة التي إنطلقت يوم الجمعة الموافق 24-7-2015، كانت في ظاهرها حول إنعدام الكهرباء والماء في صيف العراق اللاهب، وفي باطنها إنفجار شعبي هائل ضد تراكمات متفاقمة لثلاث عشرة سنة، وصل فيها المستوى العراقي إلى الدرك الأسفل بين مستويات شعوب المنطقة والعالم. وهكذا سرعان ما أشتعلت شرارة المظاهارت في مراكز المحافظات الوسطى والجنوبية حتى إمتدت إلى معظم أقضيتها ونواحيها، وهي أدلة دامغة على وحدة المعاناة والمآسي التي طالت الجميع، بلا إستثناء، من قِبل الطبقة السياسية الفاسدة والمفسدة التي جاءت من إيران لاهثة خلف بسطال المحتل الأمريكي؛ ودمرت العراق إيما تدمير.
إن إستمرار نسق المظاهرات التي تحولت بعضها إلى إعتصامات مفتوحة، كما في البصرة، قد أرعبت السياسيين والإداريين الذين سرقوا قوت الشعب وبددوا ثروات البلد، وبعد منهجية البطش والتشريد التي مارسها نوري المالكي على مدى دورتين من رئاسته لمجلس الوزراء ما بين (2006-2014)، وفراره إلى إيران هرباً من المحاسبة القانونية والشعبية، فإن فوران الهيجان الشعبي المتصاعد في نيل كافة حقوقه التي فرطت بها حكومات الإحتلال المتعاقبة، تدل على بلورة ثورة شعبية سلمية هي الثالثة بعد ثورة 25 شباط/فبراير 2011، التي قدّمت في يومها الأول 26 شهيداً على يد قوات المالكي الدموية؛ وثورة 23 من كانون الأول/ديسمبر 2013، والتي وآظبت في تظاهراتها وإعتصاماتها المدنية لأكثر من عام، تخللتها المجازر التي أرتكبتها “قوات سوات” سيئة الصيت، وغيرها من أذرع المالكي العسكرية الطائفية، منها “مجزرة الحويجة” في محافظة كركوك بتاريخ 23-4-2013، والتي راح ضحيتها نحو 60 شهيداً وعشرات الجرحى؛ ومجزرة “جامع سارية” في بعقوبة مركز محافظة ديالى بتاريخ 17-5-2013، حيث إنهالت رصاصات قناصة “قوات سوات” بإعدام العديد من المصلين الخارجين من الجامع بعد تأديتهم صلاة الجمعة؛ وغيرها من المجازر التي أنهاها المالكي في أوآخر ذلك العام بهجومات فتاكة ضد سرادق الإعتصامات المدنية والحضارية في المحافظات الست الثائرة، فأجبرت العشائر العربية إلى تشكيل مجالسها العسكرية دفاعاً عن أبنائها ومناطقها مما حذى بالعشائر العربية في محافظات الوسط والجنوب أن تشكل أيضاً مجالسها العسكرية تضامناً مع أبناء جلدتهم ضد الظلم والطغيان. وهكذا إنبثق “المجلس السياسي العام لثوار العراق” في 24-1-2014، وتم الإعلان عن تأسيسه بمؤتمر في أسطنبول بتاريخ 4-3-2014؛ حيث يمثل 45 مجلساً عسكرياً عشائرياً متوزعاً في أثنتي عشرة محافظة من جنوب العراق حتى شماله.
رغم أن شباب المظاهرات قد أثبتوا وعيهم وإدراكهم سوى بالكلام المتزن عبر القنوات الفضائية وشبكات التواصل الإجتماعي، أو في شعاراتهم الوطنية وأهازيجهم الحماسية ضد طبقة السياسيين الفاسدين والفاشلين، وضد الهيمنة الإيرانية على مقدرات العراق؛ إلا أن قلة الخبرة من ناحية، وما يدبره النظام الإيراني في الخفاء من ناحية أخرى، توجب على جميع القوى الوطنية العراقية المخلصة أن تحيط بالشباب، وتحتاط للهجمة المضادة، سيما وأن الإرهابي قاسم سليماني وصل من طهران إلى بغداد للتخطيط في وأد المظاهرات قبل إستفحالها لمستوى الثورة الشعبية، كما فعل في قيادته للميليشيات الطائفية التي أرتكبت المجازر تلو المجازر في محافظات صلاح الدين والأنبار وبابل وديالى، بحجة مكافحة الإرهاب ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”.
إن إرتفاع وتيرة المواجهات بين المتظاهرين وأجهزة الدولة القمعية، من بينها سقوط ثلاثة شهداء في محافظة البصرة، وإستخدام المدافع المائية في كربلاء، وبث البلطجية في ساحة التحرير في بغداد، وغيرها من المناطق في المحافظات الوسطى والجنوبية؛ فضلاً عن المراوغة التي يبيدها حيدر العبادي لإمتصاص غضب الشباب الثائر عبر عملية الإصلاح الترقيعية، فإن منطق الأحداث يدل على أن التصعيد سيزداد أكثر فأكثر، وإن بلورة الثورة الشعبية آخذة بالتكوير أكبر فأكبر؛ وإذا ثورة 25 شباط تم قمعها، وثورة المحافظات الست تم تبديدها، فإن هذه المرة قد تختلف كونها إنطلقت من محافظات ظنت إيران وأذنابها بالمنطقة الخضراء بأن تسويق فكرة “المظلومية” و”البيت الشيعي” و”وحدة المذهب” وغيرها من الأفكار قد إنطلت ورسخت في عقول ونفوس العرب الشيعة. وبأخذ عينة واحدة وتحليلها عقلياً ونفسياً ومنطقياً، ندرك مدى الظن الخاطئ لدى الصفويون الجُدد الحاكمين في إيران وإمعاتهم المتسلطين في العراق؛ فعندما يصرخ الشباب الكربلائيين مرددين عالياً: “طهران بره بره كربلاء تبقى حرة”، فهي دالة قاطعة على مدى العمق المترسخ والأصيل في عقول ونفوس الشباب بالولاء لوطنهم ولعروبتهم، والمفروض أن أولئك الشباب قد إنصقلوا بالطراز الصفوي كونهم قد ترعرعوا في ظل الحُكم الشيعي، كما يزعم الطائفيون في “حزب الدعوة الإسلامية” و”المجلس الأعلى الإسلامي” و”منظمة بدر” و”عصائب أهل الحق” وغيرها من الأذرع الأخطبوطية الطائفية المرتبطة بالنظام الصفوي الإيراني. ولكن خاب ظنهم وذاب أملهم.
في الواقع ليس أمام الشباب الثائر اليوم إلا التصعيد، فالحرية والكرامة وتحقيق المطالب الشرعية والمشروعة لا تأتي عبر الإكتفاء بالأقوال والهتافات واليافطات المرفوعة، بل تؤخذ بالأفعال والتفعيل من مرحلة المظاهرات إلى مرحلة الإعتصامات وصولاً إلى الثورة الشعبية التي تزيح فيها هذه الطبقة السياسية الفاسدة والمجرمة بحق العراق وأهله، وتسقط نهائياً هذه العملية السياسية البائسة والسقيمة المتمخضة من المحتل الأمريكي والمتمركز فيها مطايا النظام الإيراني. وبالتالي يستعيد العراق هويته الوطنية الحقة، ودوره العربي المطلوب، ومنزلته الإقليمية والدولية الواجبة، كما كان منذ تأسيس دولته الحديثة في العام 1921.
ولكي لا يُفهم قولنا على إنه تحريض بدفع الشباب إلى أتون المحرقة، لكن شواهد التاريخ الصفوي الدموي مع العراق من جهة، وطبيعة تطور الأحداث بين المظاهرات وحكومة بغداد الموالية لإيران من جهة أخرى؛ علاوة على تحرك النظام الإيراني العاجل سوى في إستدعاء قادة الميليشيات من بغداد، أو في إيواء المالكي، أو التصريحات الوقحة ضد الشباب المتظاهريين، رئيس أركان الجيش الإيراني حسن فيروز آبادي نموذجاً، نستدل منها على أن النظام الإيراني يعمل سريعاً على إحتواء هدير المظاهرات المتنامي، وبما أن الشباب وآعيين حيث رفضوا تسيس المظاهرات من قِبل المشتركين بالعملية السياسية، ولم ينخدعوا بأية دعاية أو حل جزئي، ولم يخشوا التهديدات الميليشية المتوالية، كما وأن بعض الضباط من الجيش والشرطة نوهوا بأنهم لن يطلقوا النيران على أبنائهم المتظاهرين، فكل هذه الأخطار المرتقبة ستؤدي إلى مواجهة حتمية تسيل فيها الدماء، ولقد فعلها نوري المالكي جهاراً نهاراً، أسوة بما فعله أسياده في النظام الإيراني ضد الشعوب بمظاهرات عام 2011.
تُرى هل سيتمكن النظام الإيراني وأتباعه في بغداد من دحر المظاهرات عنوة، كما فعلوها سابقاً؟ أم أن الثالثة ثابتة كما يُقال عن التجارب والحوادث، وينجح الشباب الثائر ومن رائهم من الرجال والنساء الوطنيين من تحقيق ما كانت ترنو إليه ثورة 25 شباط، والمحافظات الست الثائرة. بمعنى إن “ثورة العشرين” 1920 التي إنفجرت شرارتها في الجنوب ونقلت العراق إلى تاريخ سياسي جديد، هل بوادرها بدأت في 2015؟
إن الجواب على السؤال أعلاه يكمن في النظرية الإجتماعية لأبن خلدون (732-808 ه/ 1332-1406 م) والتي أعتمدها العِلم الحديث، ينص أبن خلدون في نظريته قائلاً: أن الوقائع والأحداث التي تجري في الزمن الحاضر، والتي لها ما يشابهها من الأحداث والوقائع في الزمن الماضي وفي نفس المكان، فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها. وهذا التنبوء العلمي بالمستقبل قد أخذ به عِلم الاجتماع الحديث.
من هنا يمكننا أن نأخذ بالمسببات التي جرت في وقائع وحوادث ثورة العشرين تجاه المحتل البريطاني، ونقارنها مع المسببات الجارية منذ مطلع 2012 حيث الإحتلال السياسي الإيراني بعد إندحار الإحتلال العسكري الأمريكي (2003-2011) على أيدي أبطال المقاومة العراقية الباسلة، فإن رفض المحافظات الجنوبية والوسطى للوجود الإيراني بذريعة “وحدة المذهب” أو غيرها من الإفكار والمفاهيم التي تتستر فيها العمائم الحاكمة في طهران، فإن فتيل المواجهة قد إشتعل، وكما جرى للمحتل البريطاني سيجري للمحتل الإيراني، فالعراق لا يحكمه إلا أبنائه الإصلاء، وإذا أستطاعة الأمبراطورية البريطانية لبرهة من الزمن أن تلتف حول ثورة العشرين بإقامة ملكية هاشمية في العراق، فإن إيران لا تملك شيئاً للإلتفاف عليه، حيث أن الثلاث عشرة سنة الماضية قد تكشفت فيها عورات النظام الإيراني ولم تعد له خافية على أحد.
وبذا فإن التخلص من براثن ومخالب المحتل الإيراني المنتشرة في أجهزة الدولة العسكرية والشرطية والأمنية، وإستفحاله للدور الميليشي الطائفي، وإنتشاره عبر الجمعيات والشركات المتنوعة المسميات، تتطلب ثورة إمتداد جنوبية تتصل بثورتي 25 شباط، والمحافظات الست الثائرة، لكي تنقل العراق إلى تاريخ جديد يرتبط بشموخه وأمجاده؛ وإن منطق أبن خلدون يدل على ذلك، قولوا: اللهم آمين يا رب العالمين.