كما ان لكل شئ مظهراً وجوهراً فان عملية التنمية ايضا تشتمل على هاتين الركيزتين فلنقل ان المظهر يشمل البناء المكاني، ممثلا بالتطور العمراني للبلد، الجوهر بتنمية الانسان وعقله وثقافته. فاذا كان التعمير العمراني يحتاج الى اموال للقيام بمشاريع تسهم في تحقيق انتعاش اقتصادي فان بناء الانسان يحتاج الى انشاء مؤسسات اجتماعية وثقافية واعتماد طرق جديدة في التربية والتعليم ليكون ممكنا من خلالها الارتقاء بمستوى الانسان وفي ظني ان اية عملية لايمكن لها ان تكتمل دون اكتمال هاتين الركيزتين في عملية التنمية، وقد نص ميثاق الامم المتحدة ايضا على هذا الفهم في عام 1956 إذ أكد على ضرورة ان تقوم الحكومة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلد ما لللاندماج في حياة الامم وتقديم الافضل دائما.
بدأت بكتابة هذا المقال وانا اتابع خبراً عن مشروع تاون داون الذي تحدث عنه وعن الشركة التي ستنفذه الاستاذ نيجرفان بارزاني، وهي خطوة فريدة تهدف للارتقاء بمستوى البلد العمراني وهذا مشهود له إذ سبق له أن خطا خطوات جبارة وبعقلية هندسية واستثمارية فذة في دعم المشاريع حتى وصلت الى ماوصل اليه اقليم كردستان بجهوده، ولكن هل كان مستوى البناء الانساني مماثلا لنظيره العمراني؟ ربما سيقول قائل إن البناء العمراني سيتبعه بشكل طبيعي بناء الانسان، لكن المختصون بشأن التنمية يعرفونها على انها كلا البناءين العمراني والانساني. فأي نوع من الانسان نريد بناءه وكيف؟ لنحقق هذا المفهوم في هذه المرحلة الاستثنائية التي يشهدها الاقليم، سيما وانها فرصة سانحة اليوم للقيادة والشعب معا. اذا كان البناء العمراني يستقطب الاستثمارات الى داخل البلد، فاننا نحتاج بذلك الى صيانة هذه المشاريع ولا تتم الصيانة الا من خلال انتاج جيل واع ومثقف وعلى قدر المسؤولية المناطة به. كما ان هذا العمران يستقطب الشركات لرسم مستقبل هذه المنطقة ومع ذلك لن يتحقق ذلك دون بناء منظمة للارشاد والتربية ولنا في ذلك امثلة واضحة منها تجربة اليابان التي اجمع المراقبون على انها تعود الى اعتناق القادة اليابانيين مبدأ التربية في اعادة بناء الانسان الياباني بعد ان انهكته الحرب ودمرت بلده. يقول الكاتب الامريكي ادوين اشاور في كتابه اليابانيون ان اليابان استطاعت ان تنهض بعد هزيمتها في الحرب بعقدين من الزمن ويعود هذا النجاح الى اعتماد اليابان نقطتين اساسيتين احداهما الانتقام من التاريخ والاخرى بناء الانسان. واعتمد مشروع بناء الانسان على التربية، فبدؤوا بتدريس مادة التربية الاخلاقية Moral Education ) ابتداء من المرحلة الابتدائية وحتى الانتهاء من الدراسة الجامعية وجعلت التربية منظومة كاملة اشتركت فيها كل القوى في اليابان من مؤسسات الدولة ليكون بمثابة مشروع قومي للدولة. وتتلخص تربية الانسان الياباني في الاخلاص والمواظبة على العمل والحرص والاعتدال في امور الحياة فضلا عن فهم الحرية بشكل عميق وتطوير الذات عن طريق البحث والقراءة والشعور بالمسؤولية الجماعية ليكون بذلك مساهما في بناء المجتمع، يحترم القوانين والعادات والتقاليد ويمتلك روح الحرص للحفاظ على الاملاك العامة والخاصة، وكان عليه ان يسعى الى فهم علاقات الصداقة بين شعوب العالم وتوثيقها أيضا. وفي عام 1989 عملت اليابان على مراجعة البرامج التعليمية لديها وتطهيرها من القيم الفردية المستوردة، كما أنها اضافت برامج جديدة على ان تراجعها كل عشر سنوات، إنطلاقا من بديهية مفادها أن حسن التربية كفيل بخلق عقول متفتحة، وأن هذه العقول المتفتحة ستعرف بدورها كيف تتعامل مع الاخرين، وهو أي التعامل مع الاخرين سينتج بدوره عملا مثمرا والعمل المثمر سيرتقي بالدولة الى مصاف الدول المتقدمة وهذا هو ما نطمح بان تصله كردستان في السنوات المقبلة. وهنا لابد من الاشارة الى بعض النقاط التي يكون ممكنا بموجبها ان يلحق بناء الانسان ببناء المكان. فالمساواة بين الناس واشراكهم في المسؤولية من اولى المهام الملقاة على عاتق الحكومة الديمقراطية. وهذا ما يتعزز بانشاء ملتقيات شبابية تسعى الى تعريف الشباب بحضارتهم وفي الوقت نفسه تخلق منهم جيلا قادرا على تحمل المسؤولية سواء أكان ذلك من خلال دورات تأهيلية في بناء واعداد القادة الاداريين او من خلال تقديم ارشادات وتوجيهات تهدف إلى اعداد هذا الجيل وتهيئته وهي بذلك ستقضي على اوقات الفراغ لديهم ايجابيا كما انها ستعلمهم كيفية التعامل مع الاخر بصورة حضارية.
ولو خصصت جوائز تنافسية تتبارى من اجلها الابحاث العلمية الهندسية منها او التي تتعلق بمعارف علمية اخرى، فضلا على الابحاث الفكرية والدراسات الميدانية القادرة على تحريض الشباب من اجل تقديم افضل مالديهم، وهو أمر سيمكننا لو حصل من معرفة الطاقات الشابة والكفاءات التي يتوافر عليها البلد، لتكون بديلا عن نظيراتها المستوردة وبذلك نكون قد قدمنا الدعم لشبابنا وشجعناهم على المشاركة في بناء بلدهم بعد أن نبث فيما بينهم جذوة النشاط وروح التعاون، على ان تكون الجوائز المنشودة بادارة مشرفين متخصصين لايعتمدون الا القيم العلمية في التحكيم. ولاننسى ان استقطاب الكفاءات من خارج كردستان سيكون له دور كبير في حال قامت الحكومة بتوفير سبل العيش الكريم والامن لهم.
خالدة خليل