سلاطين القارة المفقودة
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشمري
يقول الشاعر : الناسُ للناسِ من بدوٍ ومن حضرٍ … بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ.
مما لاشك فيه ان العلاقة الانسانية بين أبناء المجتمع الواحد، وحتى بين الدول، قائمة على أساس المصالح المشتركة والخدمة المتبادلة، فحين يجلب التاجر البضاعة الى السوق فإنه يقدم بذلك خدمة الى المواطن المتبضع، حيث يقوم الأخير بدفع ثمن الحاجة التي يشتريها، وبذلك يقدم بدوره خدمة الى التاجر وهي المال مقابل خدمته التي أسداها اليه. وهكذا علاقة الدولة مع المواطن فكلما زادت من تقديم خدماتها الى المواطن قام المواطن مسروراً بتقديم خدمة للدولة من خلال الالتزام بالقانون والنظام ودفع الضرائب وتكاليف الخدمات وغيرها من الامور التي فيها منفعة متبادلة. وهكذا الحال ينطبق ايضاً على موظفي الخدمة العامة، وكذلك الأطباء ورجال الأمن والجيش وأصحاب الحرف اليدوية، في تعاملهم وتقديمهم الخدمة للمواطن في الحيز الاجتماعي الذي يعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع بعيداً عن البغضاء والعداء والكراهية والحقد الأعمى الذي يعمي البصيرة ويجهم الوجوه ويقسي القلوب.
الغريب الذي نشاهده في القارة المفقودة التي تقع حيث تشرق الشمس، والتي ينعدم فيها الامان والزمان والمكان، افتقارها الى هذه العلاقة الانسانية الحميمة بين السلاطين والجماهير، والتي من المفروض ان تكون قائمة على أساس الجودة في تقديم الخدمات والمحافظة على الكيان الاجتماعي والأمن الداخلي والخارجي بمنعزل عن الخوف وانعدام الثقة بين الطرفين – المواطن والحكومة.
والسبب في ذلك واضح تماماً، فقوانين المملكة في القارة المفقودة تنص على أن يكون السلطان حين اعتلاء العرش محاطاً بالأعداد التقليديين والمعارضين من داخل المجتمع الذي يتسيد عليه ويستمد قوته منه، واذا لم يكن هناك أعداء من الداخل فإن من أتى به الى السلطة يقوم بصناعة هؤلاء الأعداء من الخارج ليزاحموه على كرسي السلطة او بهدف تدمير مقدرات المملكة المادية والبشرية، فالذي لم تطوله يده يطوله سيفه. وذلك لعدة أسباب يرونها مناسبـــــــــة منهــــــــــــــــا: 1) ضمان بقاء هذا الحاكم او ذاك موالياً لهم ومطيعاً لأوامرهم، وبذلك يتم مصادرة القرار السياسي للمملكة. 2) شعور الحاكم بأن الملاذ الآمن له، حين تخرج الامور عن السيطرة، هو في ذلك البلد الذي جاء به الى كرسي الحكم. 3) وهذا الأهم، جعل الحاكم يشعر بالخوف الدائم من محيطه الاجتماعي ليقوم بصرف أموال المملكة على اجهزة الأمن الداخلي والمخابرات والحراسات الخاصة به والجيش لحماية الاسوار، اذا ما زج في حرب طاحنة هو في غنى عنها، ويهمل في الجانب الاخر الإنفاق على التعليم والصحة والصناعة والبحث العلمي والبنى التحتية والرعاية الاجتماعية والتنمية البشرية المستدامة التي تعد من المقومات الاساسية لتطور وتقدم البلدان اجتماعياً وثقافياً وعلمياً كما نرى الان.
وعلى مرور الايام يصبح سلطان المملكة دكتاتوراً لا يرى من الامور الا سيئها، حيث ينظر الى الرعية من ابناء جلدته على انهم اعداء يتربصون به للإستحواذ على العرش، فيزداد الطغيان والظلم والاهمال، وتتفشى الأمراض والأوبئة، وتنتشر الأمية التي يصاحبها التراجع في المجالين الثقافي والفكري، وتتحول المجتمعات النامية تدريجياً من مجتمعات حية منتجة الى حدٍ ما الى متخلفة مستهلكة لكل شيء في الحياة.
وهنا تبدأ هجرة الشعب المهولة الى خارج القارة التي فقدت رمزيتها وانعدمت شخصيتها وتلاشى كيانها، اما الذين بقوا فيتعرضون للتعذيب والاضطهاد وسوء العذاب في البلاد. بينما يعذب الهاربون في مناطق لجوءهم ويلاقون في طريق هجرتهم الوان من الموت، فمنهم من يموت غرقاً أو عذاباً أو ضياعاً أو استئصالاً لاعضاءهم البشرية أو بيعاً لاطفالهم. وفي ذات الوقت تبدأ المساعي المحمومة لاعادتهم من حيث جاءوا، حيث تنتظرهم الاهوال وسوء الحال ورحلة الضياع وتغيير في الطبيعة الديموغرافية للارض والسكان. والمستفاد من هذا كله هو عدو المملكة الذي يحتل ويستوطن ويتمكن بعد ان تخلص من أمة كانت تشكل عليه خطراً، وربما تكون شيئاً لو بقيت وأمنت وأستقرت وتمتعت بحقوقها. لكن كل ذلك بات في مهب الريح وضرباً من المستحيل والخيال.
وبين هذا وذاك يتحول السلاطين الطغاة وحاشيتهم من حلفاء للإنسان وعبدة لله تعالى يعملون لمرضاته الى عبيد للشيطان الذي أغواهم بحب السلطة وامتيازاتها لينطبق عليهم قوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } [الحشر : 19]