الدكتور زاحم محمد الشمري
لم يكن ظهور الإسلام في الجزيرة العربية بعد نزول الوحي على الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبشر به أعتباطاً، وإنما جاء ليصحح مسيرة البشرية ويعيد الأمور الى نصابها، بعد ان طغى الظلم وساءت الأخلاق، وأصبح الفقير مستعبداً من قبل سيده، ولا يجد ما يسد به رمقه، فلا عدالة إجتماعية ولا مساواة بين الناس، وأصبحت الرعية تؤله سيدها وتخلده في كثير من البلدان في العالم، ناهيك عن الإشراك بالله وعبادة الأوثان التي أمست سمة عصر عرب الجاهلية أنذاك … وعليه فقد جاءت ثورة الإسلام لتدك معاقل الكفر والطغيان والعبودية، ليس فقط في الجزيرة العربية، وإنما في كل بقاع العالم، لتوحد كلمة أن لا اله الا الله، وتنصف المظلوم من الظالم، وتعطي كل ذي حق حقه، وتثبت القيم الإنسانية التي أنزلها الله تعالى في كتابه الكريم، وليكون الإسلام الأداة الالهية للقضاء على المخلدين في الدنيا، كما قالها المفكر ورائد حركة التنوير الألماني غوتهولد أفرايم لسنغ، الذين استعبدوا الناس فحلت عليهم لعنة الله سبحانه وتعالى وغضبه.
وحين صارت الامبراطورية الإسلامية لا تغيب عنها الشمس، تمتد حدودها من الهند والصين شرقاً الى أوروبا غرباً بعد أن حطمتْ وأقامتْ على أنقاض امبراطويات عالمية ذاع صيت جبروتها، ونتيجة لذلك حاولت هذه التكوينات السياسية المهزومة والمدعومة دينياً، والتي اهتزت عروشها وفقدت سلطانها، تقودها شخصيات وأحزاب دينية وسياسية مستفيدة ومتطرفة، الوقوف بوجه المد الإسلامي ومحاولة تحجيمه بشتى الوسائل والطرق من خلال الصدام المباشر، أو التشويش على الافكار السامية التي حملها الإسلام الى البشرية، أو من خلال أثارة النعرات الدينية الطائفية والعرقية في المجتمع الإسلامي الجمعي، أو اذكاء الصراع بين مجتمعات ذات صبغة دينية مختلفة كـ ـ المسيحية واليهودية والإسلام ـ، وبذلك نشأ وترعرع ما يسمى بـ “صراع الأديان” او “صراع الحضارات” بين الشرق والغرب، الذي عملت جهات متنفذة بكل جهدها على ادامته منذ الازل والى يومنا هذا، والذي اخذ اشكالاً وصوراً مختلفة.
ومن المعلوم أن ثورة الإسلام لم تكن عشوائية في أهدافها ومنطلاقتها وانما استندت الى شريعة الإسلام التي جاءت بصون وحفظ الضروريات الخمس وحرمتْ الاعتداء عليها، ومن هذه الضروريات: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل. ولا يختلف المسلمون قط في تحريم الاعتداء على النفس المعصومة، والتي أما أن تكون مسلمة فلا يجوز في دين الإسلام الاعتداء عليها باية حال من الأحوال وقتلها بغير حق، ومن تمادى أو فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام وحل عليه غضب الله، كما جاء في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) النساء 93. ومن اجل ذلك يقول الله تعالى ايضا في محكمة آياته: (… انه من قتل نفس بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) المائدة 32.
وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق عند الله ورسوله الكريم الذي يقول في الحديث الشريف: “لايحل دم أمريء مسلم يشهد أن لا اله الا الله وإني رسول الله إلا باحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني والمارق من الدين …” الى اخر الحديث (البخاري). ويقول رسول الرحمة في حرمة دم المسلم ايضاً: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم). كل هذه وغيرها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تدل على عظم حرمة دم المرء عند الله تعالى ورسوله وتحريم قتله لاي سبب كان إلا مادلت عليه نصوص الشريعة الإسلامية، فلا يحل لاحد أن يعتدي على مسلم بغير حق أو يتبلى عليه زوراً وبهتاناً.
وبما أن دماء المسلمين محرمة كما ورد في الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة فإن أموالهم محرمة أيضاً كما جاء في خطبة الرسول الكريم محمد (صلاة الله عليه) يوم عرفة حين قال: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا” (مسلم). حيث أكد رسول الرحمة في حديثه هذا على تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق.
ومن الأنفس المعصومة في الإسلام ايضاً أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين، حيث يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً” (البخاري). وهذا وعد شديد قطعه الإسلام على نفسه لمن تعرض للمعاهدين. ومن المعروف ان أهل الإسلام ذمتهم واحدة حسب قول النبي (صلاة الله عليه): “المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم”. وفي حادثة جرت في عام الفتح حين أجارت أم هاني رجلاً مشركاً وأريد قتله فذهبت الى الرسول (عليه افضل الصلاة والسلام) فقال: “قد أجرنا من أجرت يا أم هاني” (البخاري ومسلم).
إن كل ما تم ذكره مناف في حقيقة الأمر الى ما حصل ويحصل اليوم في المجتمعات الإسلامية من إرهاب وتطرف ديني وفكري وعقائدي، والذي يعزا الى ما قام ويقوم به أعداء الإسلام وضعفاء النفوس من الطامعين في الجاه والسلطان في شق صف المسلمين بعد وفاة الرسول (صلاة الله عليه)، والذين قاتلهم أصحابه رضوان الله عليهم وآل بيته عليهم السلام من قبل، ولم يفلحوا في حينه بتحقيق مآربهم وتم القضاء عليهم وعلى حلفاءهم من أعداء الإسلام في حروب الردة المعروفة للجميع، لكنهم يعيدون الكرة مرة اخرى اليوم ويحققون مكاسب هنا وهناك مستغلين التراجع الفكري الاجتماعي والفوضى وعدم الاستقرار وغياب التوافق التي تعصف بالعالم الإسلامي بشكل عام والعالم العربي على وجه التحديد.
وهذا دليل على أن المحاولات المحمومة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين وتفريق شملهم لم تنقطع واستمرت الى يومنا هذا. وتعاظم هذا الأمر حين مرت الدولة الإسلامية بفترات مظلمة نتيجة للأزمات والحروب والهيمنة الإستعمارية التي شهدتها، والتي أدت بالنتيجة الى تراجع فكر المؤسسة الدينية الإسلامية وأصبحت مستهلكة أكثر مما هي منتجة لصالح الإسلام والمسلمين، بعد أن تم اختراقها من قبل أعداء الإسلام الذين عملوا على إذكاء الإرهاب والتطرف الديني المذهبي والفكري في المجتمع الإسلامي، بحيث أصبح المسلم يقتل أخيه المسلم استناداً الى فتاوى وآراء متطرفة تدعوا الى التكفير وتسوغ الى الاجرام وتشجع عليه على نقيض الدعوة الى التسامح ونبذ العنف وإعادة اللحمة ورص الصفوف بين المذاهب الإسلامية، حيث يعتبر ذلك من أخطر الامور واشنعها وأكثرها فتكاً بالمجتمع وتفتيت لحمته، وقد عظم الله الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وكما جاء في قوله تعالى: “ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم” (النحل 116/117). ويقول الرسول (صلاة الله عليه): “من دعا الى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيء” (متفق عليه).
وبناءً على ذلك فقد حذر الفقهاء العرب من الفتن في الدين، لكنهم لم يجدوا أذان صاغية، ونذكر هنا ما جاء على لسان ابن خلدون الذي قال: “الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جداً في عصور التراجع الفكري للمجتمعات”، وعليه فإن زرع الفتن والقلاقل بين المسلمين واستباحة الدماء، وانتهاك الاعراض، وسلب الاموال الخاصة والعامة، والقول في دين الله بالجهل والهوى اشنع وأعظم في دين الإسلام ولا يرتضيه أحد من عرف حدود الشريعة الإسلامية وعقل أهدافها السامية ومقاصدها الكريمة، لذا فإن عمل هولاء المتقولين من أعظم اسباب تفريق شمل الأمة الإسلامية ونشر العداوات بين أبناءها، وتشجيعاً لا عداء الإسلام في التمادي بالإساءة الى شخصية رسوله الكريم محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام).
وفي ضوء ما تقدم وبناءً عليه نرى بأن هناك ضرورة بل وحتمية لتوحيد الصف في المؤسسة الدينية الاسلامية للوقوف بوجه الاجندات والتحديات الخارجية والداخلية التي تسيء للإسلام وأهله، وذلك من خلال اشاعة ثقافة الحوار والتسامح وقبول الاخر بين صفوف المسلمين ورفض ثقافة الإرهاب والتطرف الديني والمذهبي الدخيلة، التي جعلت الإسلام منبوذاً وغير مرحباً به حالياً في أكثر المجتمعات في العالم، وبذلك نستطيع أن نقدم للإسلام، الذي يدعو من خلال مبادئه السامية الى التسامح والالفة والمحبة والتعايش السلمي بين الشعوب، خدمة حقيقية ونجنبه من أن يكون ضحية لثقافة الإرهاب والتطرف الديني والمذهبي التي فرضت عليه قسراً من قبل أعدائه ودعاة الدين، الذين لا يهمهم منه سوى الاسترزاق من خلال تشتيت أمر الإسلام والمسلمين.