الدكتور زاحم محمد الشمري
اتسمت العلاقة التاريخية بين المجتمعين المسيحي الغربي والإسلامي الشرقي على مر العصور بالتشنج والضبابية، وعدم الوضوح في الرؤى والمنطلقات، نتيجة لإذكاء الصراع الحضاري بينهما، والذي أخذ صوراً واشكالاً مختلفة … فأما ان يكون صراعاً دينياً متمثلاً بعدم الاعتراف والإساءة الى الرموز الدينية والطعن بمصداقتها كما هو معروف للجميع … أو ثقافياً يعزا للغزو الثقافي الإسلامي للقارة الاوربية في الماضي، يقابله الغزو الثقافي الغربي للعالم الإسلامي في الوقت الحاضر … أو سياسياً مرتبطاً بتوجهات وأهداف العولمة الاقتصادية الغربية التي تعمل جاهدة على خلق نفوذ لها في اغلب القارات في العالم، حيث دفعها ذلك الى استخدام القوة لحماية مصالحها وتأمين الاسواق المستهلكة لبضاعتها مقابل الحصول على المواد الخام التي تنتجها دول الشرق … وبما إنه لكل قوة فعل هناك قوة رد فعل غير متكافئة في كثير من الاحيان بسبب عدم توازن القوى، فقد أدى ذلك الى نشوب صراعات وحروب دامية في منطقة الشرق الاوسط لها أول ولكن ليس لها آخر، حسب المنظور العام للحالة التي تمر بها المنطقة حالياً، والتي ادت بالنتيجة الى ظهور الارهاب على مسرح العمليات الحربية، خاصة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والذي حصد فيما بعد الكثير من ارواح الابرياء في العالم الإسلامي بغض النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم الدينية، وقاد البلدان الى فوضى عارمة أخرت، بل وعطلت برامج التنمية والتطور الاقتصادي فيها.
وبناءً على هذا التوصيف، وما تتطلبه مصلحة الشعوب، اصبح من الضروري العمل على تفعيل الحوار الحضاري الجاد والبناء بين الشرق والغرب يحدد العلاقة الإنسانية، وينشر ثقافة السلام والتسامح والتعايش السلمي بين شعبيهما، ويعمل على اعادة ترميم جسور التواصل التي حطمتها الحروب والازمات بين ابناء كوكبنا الاخضر الجميل المبنية على التفاهم والمودة واحترام الآخر, لتلافي الازمة الحقيقة الحالية التي تعصف بالعلاقة بين البلدان الإسلامية والعالم الغربي، وذلك من خلال تغيير نظرة التحييز والارهاب والعدوانية لدى الاطراف الى تعاون مثمر يصب في مصلحة الجميع، ويرسخ الثقة بينهما، ويقوض من نزعة العداء الطبيعي غير المبرر من قبل الطرفين النابع من التباين بين الاديان والثقافات والمصالح السياسية والاقتصادية الراهنة، بالإضافة الى العوامل النفسية.
فرغم صعوبة الوصول الى التوفيق والتوافق بين التباين الحقيقي في مصالح وسياسات الدول والحكومات على المديات المختلفة من اجل وضع الحلول الناجعة لتخطي الازمة في العلاقات المتوترة دائماً، كانت هناك عدة محاولات لتأسيس “حوار بين الثقافات”، والذي اقتصر في طبيعة الحال على اجتهادات بعض العناصر الفاعلة في منظمات المجتمع المدني وفي المجالين السياسي والثقافي وكذلك الاقتصادي منها، رغم الاختلاف في الرؤى والاهداف والمنطلقات، بهدف التخفيف من حدة التوتر على المستوى السياسي والثقافي والنفسي، والمساعدة على تقريب وجهات النظر المختلفة بين الاطراف بعد إزالة التحيزات المتبادلة، ومثال ذلك “ايام العالم العربي …” التي تقام في برلين حول الحوار الاقتصادي والثقافي المتمدن بين جمهورية المانيا الاتحادية والدول العربية، وكذلك اقامة الندوات والمؤتمرات الحوارية في عدد من الدول الاوربية التي يحضرها ممثلون عن السفارات ومنظمات المجتمع المدني العربية والاجنبية، والتي لم ترتقِ لحد اللحظة الى مستوى الحدث والتأثير الملموس على اطار المواجهة العام، رغم تحقيقها لنتائج مفيدة ولكن على نطاق ضيق يكون من الصعب العمل على تنميتها، بسبب عدم وجود واعز أو دعم دولي حقيقي، الذي غيب بدوره الحراك السياسي والدور الدبلوماسي في هذا المجال، وابقاءه مقتصراً على مهمة تفعيل العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية البعيدة عن الحوار المؤدي الى تقارب الشعوب والامم، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان منابع النزاع لا تقع في الفضاء النفسي فقط ليكون بالإمكان معالجتها، وإنما متجذرة في التجارب الواقعية على الارض، سواءً السياسية أو التاريخية منها، والتي لا يمكن تجاوزها باي شكل من الاشكال دون الوقوف أو المرور عليها، أو ازالتها بواسطة الحوار التقليدي، أو ادارة عقرب الساعة الى الوراء لكي نضمن عدم حدوثها.
لكن المثير للانتباه هو أن هذه اللقاءات والندوات الحوارية … رغم انها لم ترتق الى مستوى الطموح في نتائجها لأنها في نظر البعض، وهذه حقيقة لابد من ذكرها، تتسم بالفتور وعدم الملاءمة، ولم تؤدي الى حوار حقيقي يكون الاطراف فيه مستعدين للاستماع الى بعضهم البعض وبالشكل الذي يؤسس قاعدة مشتركة للتبادل الفكري الإنساني المتسامح، وإنما اقتصرت على اللقاءات الشكلية والمجاملات السطحية والتصريحات المغلفة بالنوايا الحسنة التي يراد بها الدعاية للموقف الذاتي، وقلما أتت بفائدة ونتائج حقيقية وملموسة بسبب محاولة الطرفين تجنب أو تفادي الخوض بحوار حضاري حقيقي وصريح خالي من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها بأية حال من الاحوال، وعليه فقد أصبحت “ندوات الحوار” التي عقدت وتعقد في الدول الاوربية والاسلامية كثيرا ما تثير الملل أو اللامبالاة عند المجتمعات بشكل عام والنخب الثقافية التي تطمح الى الحوار الجاد والمثمر بشكل خاص … لكنها تعطي مؤشرا ايجابياً بعدم استحالة الحوار الحضاري بين العالمين الغربي والإسلامي، وان فرصه كبيرة ومتاحة بالفعل، وتكاد تكون غير مستثمرة ومستغلة بالشكل الذي يؤدي الى خلق تبادل فكري وثقافي وديني وسياسي واقتصادي واجتماعي حقيقي بين الطرفين.
إن الوضع الذي تمر به العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي يحتم على الجميع عدم التنازل عن الحوار الهادف والبناء، الذي يرتقي الى التفاهم المتبادل، رغم التجارب الملتبسة والتعقيدات المشبعة بالمواجهة بين الغرب والشرق التي تنتاب هذه العلاقة حتى هذه اللحظة … وعليه فلابد من تحديد المنطلقات التي تنتج حواراً فعالاً ومثمراً يدر بالخير والأمان والاطمئنان على الجميع. وهذا الامر لا يتحقق في طبيعة الحال إلا من خلال بذل الجهود والرغبة الصادقة والتفاعل المشترك المفعم بالصراحة التي تجعل المحاور يتخطى كل الحواجز التي من شأنها ان تهمش مواضيع الحوار الجاد وتجعلها غير ذي جدوى. وهذا التوصيف لا يتحدد أو ينطبق فقط على طبيعة الحوار الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي، وإنما ينسحب أيضاً على الحوارات الدينية والسياسية التي تهدف الى بناء أو اعادة ترتيب البيت الداخلي للمجتمعات الإنسانية للانطلاق باطمئنان الى فضاءات الحوار العالمي، الذي سوف لن يكون مجدياً اذا ما بني على خطوات رصينة تمثل الدعامة أو الاساس الذي يجب ان يستند عليه المحاور، وليكون ممولاً له في الفكر والطرح الايجابي الذي سيحظى بلا شك باحترام الجميع ويكسب ثقتهم وودهم.
أن تحديد المنطلقات لا يعني بالضرورة توجيه الكلام الى طرف دون سواه من الاطراف المعنية بالحوار الهادف، الذي يراد منه تجنيب الشعوب ويلات الحروب والقهر والتهميش، ونشر المحبة والوئام بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية، وإنما الجميع مدعوين للالتزام بهذه المنطلقات والعمل على تحقيقها بالاستفادة من دروس التاريخ وعبره ومتطلبات الحاضر وتعقيداته لجعل التظاهرة النقاشية للحوار الحضاري ناجحة بكل المقاييس وتصب في خدمة الانسانية جمعاء. ومن أهم هذه المنطلقات التي ارتأينا طرحها هي:
1) أن تتوفر الرغبة الحقيقية والايمان المطلق بالحوار الجاد عند الطرفين، وأن يبدأ كل طرف بترتيب بيته الداخلي اولاً، وتحديد الاهداف بعد توحيد الرؤى ومرجعية الحوار البعيدة عن التطرف، والتي تؤمن بأن الحوار بين الغرب والشرق حقيقة، ويشتمل لدى كل طرف من الاطراف على المواقف المختلفة وعدد كبير من المهتمين بهذا الشأن والعاملين عليه، لكي يكون فعالاً ويأتي بنتائج ايجابية تخدم الإنسانية، بعد ان يؤمن الجميع بالتعددية لديه ولدى الطرف الآخر، ولا تكون هناك وجهات نظر أو طروحات من شانها تقويض الحوار أو الانتقاص من هذا الطرف او ذاك تعكس واقع المجتمعات الغربية والإسلامية المعقد، والتي من المكن ان تقود المحاورين الى طريق مسدود لا رجعة فيه، أو تؤدي بالنتيجة الى تنميط النقاشات وتحويلها الى شعائر متكررة غير ذي جدوى كسابقاتها.
2) أن لا يُفرض منطق القوة أو التلويح به في قاعات النقاش ووسائل الاعلام، وإنما يتم اتباع اسلوب مرن وحضاري للوصول الى تفاهمات افضل بعيدة عن فرض المواقف على الآخر او وعظه بطريقة تفتقر الى الشفافية، مما يولد لديه الشعور بالاستفزاز والاهانة، وعليه تظهر هنا الحاجة الملحة الى ثقافة النقاش، الثقافة التي نستطيع من خلالها أن نستمع الى الآخر ولا نهمش رأيه مهما كان. ولا يعني ذلك ضرورة الموافقة الآلية على كل الآراء التي تطرح في النقاش، وإنما الاستعداد النفسي والروحي والانساني في الاستماع اليها مبدئياً وتناولها على محمل الجد بالشكل الذي تكون فيه حلقات جلسات الحوار مكملة لبعضها في طرح الافكار والعمل على تحقيقها على ارض الواقع. وقد يلجأ البعض الى الاسهاب في الشرح والتحليل لشخصنة الامور بصراحة أو بصورة مستترة، مما يجعل الطرف الذي يمتلك القوة … وهذا القول منسوب الى بعض المستشرقين والباحثين الغرب في مجال الحوار الثقافي الذين ينتمون الى مدارس الاعتدال المنتشرة في عدد من الدول الاوربية في الوقت الحاضر … لا يُعيرُ أهمية أو ينصت ويتمعن بما يقوله الطرف الآخر، إلا اذا تناسب الكلام مع صورة العالم التي رسمها بمخيلته، سواءً بالسلب أو الايجاب. وهذا الامر يجعل الاستعداد لسماع حجج الآخر والتأمل بها شرطاً اساسياً من شروط الحوار الناجح.
3) أن يعي الجميع بأن سياسة التنديد بالآخر لا تحقق الحوار الهادف ولا تجعل الطريق سالكة اليه كما ينبغي، فالامتناع عن التنديد هو المنطلق الاساسي الذي يحقق الغاية من الحوار الإنساني الذي تتأمله كافة الشعوب في العالم، والذي يحتم على المحاور التحلي بالبديهية في التفكير والسلوكيات الذاتية. إن الحوار المثمر والحقيقي بين الغرب والعالم الإسلامي يتطلب منا … وهذا هو راي الباحث الغربي ايضاً الذي يخاطب عقول طرف الحوار لديه … “النظر بروح نقدية الى انفسنا وهويتنا والسدود التي تعوقنا فكرياً، فظلاً عن مصالحنا وافعالنا، وإلا ستضيع منا فرصة لا تعوض.” كما ويجب ان يكون الحوار قابلاً لوضع طريقة التفكير والمنطلقات الفكرية لكلا الطرفين موضع نقاش.
4) اجتهاد الطرفين في الوصول الى معايير مشتركة تتعدى التحيزات والتراث الثقافي، بغض النظر عن حال كونه اسلامياً أو غربياً، ويكون النقد والتأمل بالذات عنصران مركزيان في أي حوار، يرافقه الفحص والتقييم الدقيق لما يطرحه المشاركون من مقولات وافكار بحيث لا نخفي ما يضايقنا او يخيفنا منها تحت طاولة “الاختلاف الثقافي”، بالإضافة الى التحلي بالصبر والاستعداد الى سماع انتقادات الآخرين خلال جلسات النقاش وفهم اعتراضاتهم والتأمل فيها بالشكل الذي يكون التبادل الهادف لتحقيق الفهم القاعدة الاساسية للحوار، شريطة ان يكون الحوار مهذباً، دون ان يتسم بالجبن.
5) ان عملية الارتقاء بالحوار الى المثل العليا تحتم على الطرفين العمل على معالجة الجوانب الشعورية للعلاقة الغربية – الإسلامية على نحو مناسب. فسياسة التخويف الاعلامي لسكان المجتمعات الغربية من الإسلام يجعلهم يشعرون بانهم مهددون من قبل المسلمين أو من الثقافة ذات الصبغة الاسلامية، رغم انهم يعيشون سوية دون مشاكل، مع بعض الاستثناءات، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار التفوق السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري الجبار للغرب الذي يزيل هواجس الخوف غير المبرر، هذا من ناحية. من ناحية اخرى أمست الحوارات والنقاشات والطروحات الانفعالية على مختلف المستويات حول “الحجاب” او “الخوف من الاغتراب الثقافي” تمثل لدى المسلمين نقاشات حول الاعراض، والتي استخدمها البعض كمبررات للإرهاب والضربات الارهابية المثيرة للجدل، ناهيك عن تجارب القهر والخنوع التي اذاقتها الدول الغربية للبلدان الإسلامية بشكل عام والعربية بشكل خاص، والتي تركت جروحاً عميقة في مجتمعاتهم، ادت بالنتيجة الى نشوء سدود شعورية تجعل من الصعب ان يستمع كل طرف الى الآخر بهذه السهولة … وعليه يتطلب الحوار الجاد من المحاورين انفسهم، وهذه هي ايضاً رؤية الباحث الغربي والإسلامي المعتدل، أن لا يجعلوا “المخاوف والتحفظات واللاعقلانية والسدود الشعورية عند الآخر سببا للانسحاب من النقاش”، وإنما يجب طرحها بوصفها موضوعاً للنقاش.
وبناءً على ما تقدم يجب على كل طرف من اطراف الحوار أن يتعلم ويفهم بشكل دقيق كيف يتحمل مشاعر الطرف الآخر التي غالباً ما يطغي عليها التحيز للذات، وأن يعمل في ذات الوقت على شخصنة مسببات الانفعالية الذاتية وانفعالية الطرف الآخر وعقلنتها، وهذا لا يعني الدعوة للاستسلام تجاه ممارسات وتحيزات ومزاعم الطرف الآخر أو حتى تبريرها، وإنما التعرف على الانفعالات الذاتية ووضعها موضع تساؤل.
6) ضرورة أن لا يوظف الحوار الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي لأمور أخرى وبالشكل الذي يسيء الى فهم وظيفته والغاية التي انطلق من اجلها، وأن لا يتخطى حدوده ويراعي شروطه، مع التذكير الى انه مهما كان الحوار مهماً ومؤثراً وذات جدوى لا يستطيع بمفرده أن يقدم الحلول الناجعة لمأزق العلاقات الغربية – العربية والغربية – الإسلامية، الذي يعد نتاجاً لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية بحته، التي قد تعمل الجوانب الثقافية والدينية على تقويتها أو اضعافها … وعليه اصبح من الضروري أن لا يقتصر الحوار الحضاري على الجانب الثقافي والديني فقط في جلسات النقاش، وبالشكل الذي يجعله يفقد أهميته في حلحلة القضايا العالمية المحورية الراهنة، وإنما يجب ان يراعي المتحاورون فيه معالجة الجوانب السياسية ومسألة توازن القوى بين الغرب والشرق، ويعملون بجدية على موضعتها. وهذا الامر يتطلب في طبيعة الحال تضحية وجهد كبير، وأن لا يكون المعنيون بالشأن السياسي في منأى عن الحوار، بل يجب أن تكون لهم مشاركة فعالة نابعة من الرغبة الجادة في نشر السلام والسلم العالميين في ارجاء المعمورة لتجنيب البشرية ويلات الحروب ومأساتها.
إن التزام الاطراف المعنية بهذه المنطلقات خلال الاعداد والتنفيذ للحوار الحضاري سيؤمن لها الطريق نحو تحقيق الاهداف المنشودة من خلال تقديم الرؤى والحلول الصحيحة للمشاكل القائمة بين العالمين أو القطبين غير المتكافئين الغربي والإسلامي في الحوار الحقيقي والجاد، الذي يشترط فيه الانصات الى الآخر مهما كانت وجهة نظره التي يعبر ويدافع عنها، وصياغة تقييم جذري لمجمل المشاكل التي تعاني منها العلاقة بين الجانبين، لأن مزيداً من التصعيد والتهور سيقود المنطقة والعالم بأسره الى المجهول، ووقتها لا ينفع الندم حين يعض الجميع على النواجد.
الدكتور زاحم محمد الشمري