المتغيرات والتحولات الكبرى في حياة الأمم والشعوب سنة كونية في حياة البشر وقانون مضطرد الحدوث لا تحد منه طبيعة المجتمع ولا قيمه، ولكنه يحتاج دوما إلى محرك ومفجر لصاعق التحول بعد نضج الظروف الموضوعية والذاتية له، فالبقاء على وتيرة واحدة عصية على التغير من الصعوبة بمكان، فضلا عن كونها غير ممكنة على الاطلاق لكون الزمن وأستحقاقات التطور لا بد لها أن تكون قانونا غير جدلي بالمرة، فالإنسان يتحرك إلى الأمام في السيرورة والصيرورة وقد يتأخر أو يتقدم مسرعا كلما نضج الوعي الجمعي والاجتماعي لديه وعلى الدوام لإحداث تغييرات جذرية في طريقة الحياة، الامر الذي يدفعه للتفكير الدائم للتغلب على الصعاب وتجاوز المحن الحياتية بطرق مختلفة، مما يمهد الطريق لإحداث تطورات وقفزات كبرى.
فان عملية التعامل مع تلك المتغيرات تختلف باختلاف نوعية الفكر وفهمه لطبيعة المجتمع وتوفر الفرص التي تساهم في ذلك على المستويين الفردي والجمعي، والقدرة على الاستفادة منها بأكبر قدر ممكن من التوظيف الواقعي بعيدا عن الأفتراض والنظر المثالي الذي يغيب حقيقة هذا الفكر وخصوصيته، خصوصا وان الاستجابة مع المستجدات مرتبطة بطريقة التفكير وألياته العملية والمنهج الواقعي في تطبيقه وتجسيده وكذلك النظرة الاجتماعية السائدة.
الشيء المؤكد في عملية التغير وتقبل التحولات ترتبط اساسا بقدرة الإنسان اولا على فهم الفكر الجديد وفهم ضرورة التغيير ومن ثم كيفية بلورة هذا الأستعداد بعمل ذاتي يمكن أن يساهم في تسريع عملية التحول والتغيير دون عوائق كبيرة، خاصة إذا كانت إمكانية المجتمع كفرد ومجموعة لديها الأسباب والعلل لهذا التحول الكبير، الواقع الأجتماعي والسياسي والديني وفي كل المستويات في الجزيرة العربية كان مهيأ لمثل هذا التجول والتغيير لوجود الكثير من النواحي الضرورية والأرضية المناسبة لذلك، هذا ما أثبتته الأستجابة القوية وسرعة التحول التي شهدتها المنطقة تجاوبا مع دعوة النبوة، وأنخراط طيف واسع من طبقات المجتمع المكي أولا والعربي ثانيا في هذه الدعوة والتحول دون تحفظ او ممانعة.
هذه القدرة والتلقائية المبررة بأسبابها وعلاتها تفسر لنا الاستيعاب الكبير للمتغيرات المستقبلية التي عصفت بأسس وقوانين المنظومة الأجتماعية التقليدية السائدة حين ذاك، وبدون وجود تفكير قادر على اختراق النظرة السطحية التقليدية والولوج في العمق بطريقة احترافية أبهرت الكثير ممن كان على أمل التغيير أو وجد فيها تعبيرا عن الذات، خصوصا وان امتلاك النبي محمد قبل البعثة النظرة الغير الهامشية التي ظهرت من خلال تعامله الطويل مع المجتمع المحلي والذي أكسبه الموثوقية والصدق في دعوته قد أحدث الفرق لدى الافراد المعنيين أكثر بالتغيير، مما يفسر لنا حالة الاستفادة القصوى من التطورات.
فمقدار الاستفادة من عملية التحول والتغيير السلمي الذي بدأ بها محمد بعد البعثة وفي المراحل التبشيرية لها مرتبط بمستوى التفكير الجمعي أيضا، والقدرة الطبيعية على التقبل السريع والواعي لها والتفاعل معها بكل أخلاص لأنها الخيار الوحيد للخروج من مأزق التشرذم والفوضى، وبالتالي فان العملية تتطلب جهودا استثنائية أحيانا من الداعي والمدعو لها لمواصلة مشوار مواكبة المتغيرات القادمة، وعدم التوقف عند مرحلة زمنية محددة مرتبطة بظرفها وواقعها وواقعيتها ونظرا لاستمرارية الفكر البشري في استكشاف المزيد من التغير والتحول الإيجابي في الحياة، وإماطة اللثام عن الكثير من الإسرار ذات الأثر الإيجابي على المسيرة الاجتماعية لهم بشكل عام، فالعملية هنا تستدعي إيجاد القنوات اللازمة لإحداث الاستعداد النفسي والروحي الفردي والجمعي لمجتمع مكة نواة التحول والتغير، مما مكن لاستقبال التطورات بطريقة شبه سهلة وغير معقدة بتفاصيلها، نظرا لوجود الفكر القادر على القراءة السليمة والواقعية التي تفهم نفسية المجتمع وتساير عملية التحول وفق مناخ الإيجابية، وبعيدا عن الأصوات الرافضة او غير المستوعبة لسنة الحياة والتي أنزوت لاحقا بعد فشلها وعجزها عن التصدي لعملية التحويل برغم المقاومة التي أبدتها باكرا.
يعتقد بعض الباحثين من الجدد وبناء على ما نقلوه عن رؤية المؤرخين القدامى وأصحاب نظرية (أن المجتمع العربي كان في زمن ما قبل النبوة كان مجتمعا عصيا على التغيير والتطور كونه مجتمع وثني قبلي جاهل غير قادر على التكيف وفهم التحولات الضرورية له) فيرددون مقولة أن رسول الله (ص) جاء في مجتمع جاهلي ومتعصب لقيم اجتماعية معينة ورافض لفكرة أي تحول او تنازل عن منظومته الخلقية التي ورثها عن اسلافه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا ما أَنزَلَ ألله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابآءنا)، متناسين أن هذا النص وإن نزل في المجتمع المكي لكنه مشترك عام تشاركت فيه كل دعوات النبوة والرسالات، لكنه في النهاية أنهزم أمام مد التغير والتحول، هذه أحدى السنن التأريخية والدينية التي رافقت وجود الإنسان عبر التأريخ ولليوم.
هذا على المستوى الجمعي والأجتماعي المستهدف من الدعوة للتغيير والتحول، أما على المستوى الشخصي كان النبي محمد وقبل نبوته قد أكتملت لديه الأستعدادات النفسية والروحية ذاتيا من خلال عملية طويلة من المحفزات والمقدمات التي هيأت لمواجهة الأستحقاق القادم، وخاصة في الجانبين الأخلاقي الأجتماعي والجانب الروحي الديني الذي تمسك بها سليل العائلة الحنفية التي بقيت على دين الأجداد إبراهيم وإسماعيل، فلقد كان الأساس التوحيدي في عقله متينا وثابتا ويقينيا أن كل الديانات التي عاصرها وشهدها في حياته أو من خلال سفراته وأطلاعه على الغالب منها، تؤكد له أن هناك خللا ما في طريقة تعاطيه مع إيمانه بالوحدانية وشروطها.
وبسبب قوة ونفوذ المعنى الديني في حياة الإنسان وخاصة الذي يملك إرثا صالحا للبناء القيمي المتجدد عليه، فمن الطبيعي إذن أن يكون الحراك الثقافي والمجتمعي مشروطا بعوامل ومعطيات ومقدمات، من أهمها حراك الوعي الديني نفسه لدى الفرد وبعمق روحي يساعد على التقبل والتكوين التجديدي، فهو يتحول أساسا إما بتجديد في المقولات والمفاهيم اليقينية التي تحتاج إلى بيان ووضوح أكثر، أو تغيير في مدلولاتها بفعل تجديد في منهج القراءة والتأويل أستنادا إلى قيم الفكر الجديد المحمول للتغيير، فالتحولات التاريخية الكبرى ومنها حركة النبي محمد في داخل الإطار الديني الذي رأى فيه الحاجة الضرورية للإكمال والبيان والتي ظهرت في المسار الثقافي البشري عنده، كانت متزامنة مع حدوث مراجعات على مستوى النسق الديني الاعتقادي السائد في مجتمعه.
فالقاعدة الدينية والتي جاءت مجملة ومفصلة لاحقة في النص الديني الإسلامي المحمدي والتي تقول (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لم تكن هذه المقولة بالتأكيد بعيدة عن ذهنية النبي محمد وهو يمارس التغيير الذاتي تمهيدا للتغيير الجمعي المقترن بالفكر القادم على المجتمع المكي أولا، منه أنطلق ليكون قانون عام من قوانين التغير والتجديد الديني في مراحل أكثر حاجة للتغيير الذاتي، أما في التجربة المحمدية العربية فيلاحظ أن الدين كان عامل إنشاء لهذا التحول والمبرر الأساسي لظهور الفكر الجديد تمهيدا لإعادة التوازن في العلاقات الأجتماعية من خلال مفهوم العقيدة الدينية، إذ ارتبطت نشأة الكيان الحضاري العربي الجديد بدعوة دينية كانت تنتظر عوامل النضج والأستحقاق من خلال صاحب الدعوة ومن خلال قيم المجتمع التي أمست أكثر قدرة على تقبل التغيير بفرط عوامل الظلم والطبقية وغياب العدالة المجتمعية.
لقد لعبت العوامل النفسية التي مرت على محمد قبل البعثة الدور الرئيس في إعداد قائد للتغيير تميز أولا بتقديم القيمة الأخلاقية كنموذج عملي في مسألة تقبل المجتمع له، كما تميزت هذه الشخصية بقدرتها على قراءة الحدث قبل وقوعه ليس من باب التنبؤات والغيبيات ولكن من خلال الفراسة المعرفية التي تكمن في عقلية مثقف روحي تجاوز سيرورة مجتمعه وحتى سيرورة القيم التي عاش فيها كمجتمع، وعلى هذا الأساس ومع لحاظ التطور الأجتماعي والمعرفي المتزايد في مجتمع مكة نتيجة الأحتكاك والتلاقح الحضاري، وما أفرزت الأحداث الأجتماعية والسياسية فيها من شكل تنظيمي شبه مدني قابل للتطور والنضج أصبح محمدا على موعد مع القدر في أن يكون المطلق لرحلة التغيير بعيدا حتى عن فهم البعض من أن هناك عناية سماوية خاصة في هذا الموضوع وقد لا ننكرها، لكن من المؤكد أن العامل البشري هو المهم في دراستنا لأننا ولحد هذه اللحظة قبل البعثة لم نعرف خيارات السماء ولا نعلم بها حقيقة.
الأعداد النفسي لمرحلة البعث
اترك تعليقا