شهدت دول أمريكا الجنوبية منذ حصولها على الاستقلال من الاستعمارين الاسباني والبرتغالي، المئات من الانقلاب في مختلف دولها، حيث سيطر جنرالات الجيش على مقاليد السلطة لفترات متفاوتة، الأمر الذي جعل من الضروري تسليط الضوء على هذه الظاهرة في تاريخ العالم الحديث والمعاصر.
تعود جذور التدخل العسكريين في السياسة وسيطرتهم على الحكم كما جاء في تحليل (جاك جوزيف اوسي) إلى فترة حروب التحرير من الاستعمار التي خلقت الظرف المناسب لتدخل العسكريين في شؤون بلادهم السياسية، فبعد الاستقلال منح قادة الجيوش المنتصرة الحق في الحكم، لا سيما مع وجود حالة من الفراغ السياسي أعقبت الاستقلال ما أدى إلى تفاقم دور المؤسسة العسكرية، تدريجيًا، واضطلاعها شؤون البلاد السياسية، فبدلاً من انتقال السلطة إلى مؤسسات وشخصيات مدنية ظلت القوة السياسية مركزة في يد المؤسسة العسكرية لعقود طويلة.
والسبب الآخر يعود هذا التدخل إلى البنية الاجتماعية في أمريكا الجنوبية، وانتماءات ضباط الجيش التي تعود إلى العنصر المهيمن في تلك المجتمعات، والذي تكون من التجار والأثرياء، وكبار ملاك الأراضي، ورجال الكنيسة، والضباط العسكريين ارتبطوا بهذه القطاعات وعبّروا عن مصالحها، التي تمثلت في الحفاظ على الوضع القائم، وقمع الطبقات الدنيا، وكان الجيش هو الأداة الناجعة، لتنفيذ ذلك، لذا دعمت الطبقات العليا وصول الجيش إلى السلطة، وبقائه فيها، حماية لمصالحها، ما أفرز التحالف بين ركنين من أركان طبقة واحدة: العائلات الثرية الكبرى من ناحية، حيث السلطة الحقيقة الكامنة وراء جهاز الحكم والقوات المسلحة من ناحية ثانية، وهي الأداة التنفيذية التي استخدمت لقمع الشعب والحيلولة دون حدوث أي تغيير قد يمس مصلحة الطبقة الثرية.
ولا ينفصل ذلك عن دور واشنطن التي اعتبرت أمريكا الجنوبية حديقتها الخلفية ومنعت بكل قوتها دخول أفكار لا تتناسب وسياساتها، خصوصًا إبان الحرب الباردة، وكان من مصلحتها دعم استقرار الوضع القائم، على أساس أنه أفضل الطرق لمواجهة محاولات التغيير الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة الحساسة، وهو ما أوجب الدكتاتورية العسكرية التي توافقت سياساتها مع سياسة البيت الأبيض في مواجهة الشيوعية، الأمر الذي رسخ صورة الولايات المتحدة عند الشعوب اللاتينية كصديقة للاستبداد ومؤيده للديكتاتورية، وهي الدولة التي كثيرًا ما أدعت أنها تحمل مشعل الحرية والمتحدث الرسمي باسم (العالم الديمقراطي) ومع مطلع الألفية الجديدة، حيث تحول مثير للاهتمام تمثل في صعود الحركات اليسارية الى سدة الحكم في معظم بلدان أمريكا الجنوبية، الأمر الذي قد يجعل الكثيرون يتساءلون عن العوامل التي أدت إلى هذا التحول، خصوصًا بعد أن اعتبر منظرو الرأسمالية أن الفكر اليساري قد تعرض لهزيمة ساحقة ولن تقوم له قائمة أبدًا.
من المثير للسخرية أن سياسة واشنطن كانت العامل الأول لصعود اليسار في أمريكا الجنوبية، ذلك أن مواطني وساسة الدول اللاتينية بدأوا يدركون أن اهتمامات الجار الأكبر في قارتهم باتت تقتصر على ما يهم المصالح الامريكية وليس المصالح المشتركة، فاهتمامات واشنطن تكاد تتركز في مكافحة المخدرات، وتأمين الممرات المائية الاستراتيجية لسفنها وناقلاتها، ووارداتها من المعادن والثروات الطبيعية، وحماية وتعزيز مصالح الشركات الأمريكية، ومواجهة أي توجهات يسارية تظهر في دول القارة تراها واشنطن معادية لمصالحها، الأمر الذي جعل المواطن في تلك البلاد ينظر إلى اتجاه البيت الأبيض ويصوت في انتخابات بلدانه إلى الاتجاه الآخر أما العامل الثاني فيتمثل في تمرد سكان البلاد الأصليين على التهميش السياسي الذي تعرضوا له منذ الغزو الاسباني – البرتغالي حتى الآن، الأمر الذي أدى إلى بلورة فكر تحرري مناهض للسلطة مركزيًا في حالة السكان الاصليين في بوليفيا مماثلاً لتطور فكر الحركة (الزباتية) في جنوب المكسيك، وكذلك مع حركة السكان الاصليين بجبال الانديز بالاكوادور، وحركة المواطنين من أصل افريقي في البرازيل.
والعامل الثالث يعود إلى الإرث اليساري في القارة، وهو قديم وسابق للثورة الكوبية، إلا أن ظروف الحرب الباردة ساهمت في اسقاط التجارب المختلفة في القارة سواء عبر انقلابات عسكرية داخلية مدعومة أمريكيًا مثل الحالة التشيلية في عام 1973 أو عبر تدخل عسكري امريكي صريح مثل حالة غرينادا عام 1985، أو المزاوجة بين تكثيف الضغوط الخارجية مع دعم حركة تمرد داخلية مثل حالة نيكاراجوا في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، أو فشل تلك النماذج في تحقيق ما وعدت به لجماهير شعوبها، خاصة الطبقات الكادحة في عدد من الحالات.
وكانت النتيجة سقوط أو انهيار هذه النماذج، إلا أن كان مقبولاً من الحرب الباردة لم يعد مقبولاً بعد انتهائها، وعلى هذه الخلفية يمكن فهم فشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس الفنزويلي المنتخب ديمقراطيًا (تشافيز) في عام 2002 مثلاً، واضطرار الانقلابيين لإعادة الرئيس إلى سدة الرئاسة بعد أن واجهوا معارضة شعبية عارمة، ورفضًا من داخل صفوف الجيش ذاته، وتهديدات بعقوبات من الأمم المتحدة ومنظمة الدول الامريكية.
الأنظمة اليسارية الجديدة في أمريكا اللاتينية وصلت إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، واستمرت فيه برغبة وتأييد قطاعات واسعة من شعوبها، وبالانتخابات تضرب لنا مثلاً جديرًا بالاحترام في الشفافية والنزاهة، وأي نظام حكم في أي مكان يقوم على اختيار شعبي حر، وينصاع للإرادة الشعبية ويحترم رغباتها، لا يمكن وصفه تحت أي تقييم أو تنظير انه استبداد أو شمولي كما تحاول أن تصف واشنطن ومعها الدول السائرة في ركبها.
ويمكننا في هذا الصدد الإشارة إلى المرشح اليساري بيدرو كاستيلو الذي فاز بالانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيه الماضي في البيرو بعد تقدمه على منافسته اليمينية الشعوبية كيكو فوجيموري التي أمعنت فسادًا في البلاد.
على نقيض الثرية فوجيموري فإن بيدرو كاستيلو الذي فاز بالرئاسة هو أستاذ مدرسة من ريف البيرو ليس من أصحاب الثروات، ولم يكن معروفًا لدى البيروفيين الى أن تولى قيادة حركة اضراب المعلمين الكبيرة في عام 2017 وبدأ نجمه في الصعود رويدًا رويدًا حتى حان موعد هذه الانتخابات، حيث أعلن برنامجه الذي يضرب المصالح الرأسمالية في البيرو خاصة لجهة إعادة توزيع الثروة والتأميم.
كاستيلو رجل مؤثر ومحبوب ومتواضع ولا يتخلى عن لباسه التقليدي في معظم المناسبات، الأمر الذي زاد من شعبيته، ولاسيما في الريف البيروفي، حيث يزداد عدد الفقراء جراء عدم اهتمام السلطة المركز به وعدم تنميته كما يستحق.
واقترح كاستيلو المدرس والنقابي البالغ من العمر 51 عامًا في برنامجه الانتخابي سلسلة من خلطوا التأميم للقطاعات الحيوية ووقف بعض الواردات لتعزيز الصناعة المحلية وإلغاء الإعفاءات الضريبية وزيادة الضوابط الحكومية لتقوية الاقتصاد.
وهكذا اختار الشعب البيروفي النهج اليساري الاشتراكي والتحرر من سياسات الاقتصاد النيوليبرالي، وأعطى أصواته لمرشح اليسار كاستيلو.