د. نضير الخزرجي
ما من أحد في هذه المعمورة إلا ويحب أن يعيش حراً طليقاً يتصرف كيفما يشاء وأنى يشاء، لا تصده القيود ولا تمنعه الحدود معمور الجيب بالنقود مفتول الزنود، يجتاز السدود ولا يخشى الرعود، يفتخر بالأولاد والأحفاد ويعظم الجدود، يمنى النفس بخلود سرمدي ما دامت السماوات في أفلاكها تسبح، والأرض في درب تبّانتها تسرح.
أحلام وردية لنا أن نحقق بعضها والكثير منها تتكسر أمواجها على ساحل الحقيقة وتنتهي مديّاتها عند مرافئ الواقع، فلا الحربة مطلقة، ولا الدنيا دائمة، فالقوة إلى هزال والمال إلى زوال، وبقاء الحال من المحال إن حط الرحال أو جال، إن أغمد السيف أو صال، وكل أجل آت ما عمّر الإنسان أو فات .
هذه هي حال الحياة الدنيا لا تستقيم على أمر وليس لمتقلباتها من مفر ولا هي بالمقر، بيد أن الثابت منها أمران:
أولا: إنَّ الإنسان هو محورها وفي يده بناؤها أو خرابها، وحيث يجهل مقامه فيها يذكره خالقه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) سورة الإسراء: 70، وحيث ينسى دوره في خضَّم تغرُّبها وتشرُّقها ذات اليمين وذات الشمال يأتيه النص العلوي المنظوم من بحر المتقارب: (وتحسب أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر) ديوان الإمام علي: 45.
ثانيا: إنَّ الإجتماع أساس الحياة السليمة، فالمجتمع هو مجموع أفراد البشر في البقعة الواحدة يشتركون في كل شيء، يفرحون ويحزنون معاً، ولا قيمة للإنسان من دون الإجتماع إلا أن يختار بقعة نائية في شرق الأرض وغربها، أو يعرج إلى جرم يصفر بأهله.
وللمجتمع موازينه وحدوده وتقاليده وعاداته وأعرافه، فليس من السهل تجاوزها ومن الصعب تغييرها، ولكن ليس من المستحيل تثقيف أفراد المجتمع على التمسك بالصالح منها ولفظ الطالح، فهي تراكم عادات على مر الزمان، تضبط إيقاعها في المجتمع مجموعة أحكام عرفية أو تشريعات دينية أو مدنية.
وللوقوف على مجمل أحكام الإجتماع وعلاقة الفرد بالمجتمع وتعاطيه مع العادات والتقاليد والأعراف، صدر في بيروت عن بيت العلم للنابهين حديثا (1433هـ – 2012م) كتيب “شريعة الإجتماع” أبان فيها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مجموعة من الأحكام في 84 مسألة تنظم مسيرة المجتمع بما فيه صلاحه وخير الأجيال، قدّم وعلّق عليه القاضي آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
موروثات فاعلة
لكل مجتمع عاداته وتقاليده وهي نتاج سلسلة من التفاعلات الإجتماعية لأعوام متمادية أو دهور طويلة تدخل البيئة والجغرافية والحوادث الواقعة والمعتقد والمجتمعات المجاورة في توليف عادات المجتمع وتقاليده، فبعضها تتأصل جذورها بما يصعب قلعها إذا ما خالفت مسلمة من مسلمات الدين، وبعضها الآخر قابل للزوال وبعضها الآخر قابل للتحوير بما يتواءم والدين، قد لا يتفقان ولكن لا يتعارضان، فالتقاليد ليست حلقة منفصلة عن مناحي الحياة الأخرى وإنما لها مماسّات مع كل حلقات المجتمع من قبيل نظام الأسرة والزواج والولادة ومواسم الأفراح والأتراح، بل في كل صغيرة وكبيرة، كل هذه الأمور مصاديق لعلم الإجتماع بوصفه كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (هو دراسة وضع المجتمعات وأعرافهم وما ينتهجونه، ودراسة تاريخهم ومعتقداتهم الإجتماعية ونسيجهم الذي كوَّن هذه الكتل البشرية في شرائح تتفاوت إحداها عن الأخرى).
وتدخل العادات والتقاليد ضمن المواريث الشعبية أو التراث الشعبي، فيُشار للمجتمع بها وبها يُشار للمجتمع، فأحدهما دال على الآخر، فلكل مجتمع تقاليده وقد يشترك مع مجتمع آخر ببعضها، وقد تصبح التقاليد مع مرور الزمن والإنقطاع عن المنبع ديناً، وخير التقاليد والعادات ما كانت مدعاة للخير وبث مفاهيم الخير والفضيلة وتوثيق عرى المجتمع وشد لحمته، وبهذا تكون أقرب للواقع والعقلانية وأصدق إلى رسالة السماء التي تحارب الفساد ونبذه وتعمل على إشاعة السلام والسلم المجتمعي، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أن: (كل العادات والتقاليد التي لا تخالف الشريعة المحمدية لا حرمة في اتباعها بل والتعامل بها).
ولا إشكال في أهمية معرفة المرء لعادات وتقاليد المجتمعات الأخرى، ولاسيما التي يكون على احتكاك معها من خلال السفر أو التعامل التجاري أو الهجرة، فما يصدق في مجتمعه قد لا يصدق في مجتمعات أخرى، وما يكون مقبولا عند الآخرين قد لا يكون مقبولا عنده وبالعكس، ولذلك عليه الوقوف على عادات وتقاليد الآخر حتى لا يقع في المحظور ويرتكب ما لا تحمد عقباه، وهذا جزء من علم الإجتماع، وفي هذا السياق يرى الكرباسي أن: (محاربة مجتمع مع مجتمع آخر على رفض أو فرض العادات والتقاليد لا يجوز شرعاً ولكلٍّ حرمته، فلا يجوز استخدام القوة في ذلك حتى وإن حدث فيما بينهم خلاف على بعض المسائل) ولهذا: (يجوز للحاكم أن يأخذ بعين الإعتبار في سنِّ القوانين بعض الإعتبارات العشائرية والقومية ومراعاة بعض العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الذي يحكمه من دون مخالفة الشرع)، كما: (يجوز للحاكم الإسلامي أن يميز منطقة إجتماعية ببعض القوانين التي تراعي فيها عاداتهم وتقاليدهم بما لا ينافي التمييز بين فئات الشعب وسحق الحقوق)، ولكن لا ينبغي التمادي كثيراً مع التقاليد غير المنسجمة مع العقل والفطرة التي أصبحت لدى الآخر ديناً، ولكن إذا انسلخت العادة عن العقيدة فلا حرمة في ذلك ويمثل الكرباسي بذلك العبور على النار في عيد نوروز لدى بعض المجتمعات المسلمة، إذ أن: (العادات والتقاليد غير الإسلامية كمسألة العبور على النار في عيد نوروز إذا انسلخت من مقاصدها العقائدية جاز ذلك، وإلا حرُمت)، وفي الوقت نفسه: (يجب العمل على إبعاد المجتمعات من الخرافات ومن الأمور اللاأخلاقية ومما لا يرتضيه الشرع والعقل والفطرة السليمة)، ويؤكد الفقيه الغديري في تعليقه أنه: (لا يجوز الإهمال فيه بالحِيل الواهية التي يتوسل بها بعض من له المجال للقيام بذلك من قبيل المصالح السياسية وغيرها).
أعراف محمودة
وإذا ما ذكرت التقاليد والعادات اصطفت إلى جانبهما مصطلح الأعراف، صحيح أن البعض لا يرى فرقا بين العادة والعرف، ولكن الثاني هو حصيلة تقليد أو عادة تسالم عليه المجتمع حتى أصبح مقبولا لدى أكثرهم أو جميعهم، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (العرف: هو العادات والتقاليد التي تعارف عليها المجتمع المدني وساد بينهم وتعاملوا معه)، فيأتي الشرع السماوي ليقبله أو يشذِّبه أو يرفضه، وتطبيقه من عدمه عائد للمجتمع نفسه، فعلى سبيل المثال كانت بعض الديات قائمة في عهد ما بعد الإسلام وكانت من الأعراف التي تسالم عليها عرب مكة بخاصة وعرب الجزيرة بعامة، فاستحسنها الإسلام وأقرها، من قبيل دية القتل فقد كانت عشر من الإبل حتى جعلها شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي جد النبي محمد(ص) مائة من الإبل، فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل وأقرها الإسلام على ما كانت عليه، وهنا يذهب الفقيه الكرباسي إلى إنتقاد من يعمل على ضرب العرف والتقاليد الداعية إلى نشر الخير بحجة أنها من عنديّات المجتمع لا من الدين، إذ: (لا يجوز العمل على إفشال التجربة الإجتماعية الناجحة القائمة على المحبة والإخاء والأخلاق والقيم، ومَن سعى إلى تخريب ذلك فقد أثِمَ، بل هو من الفساد في الأرض)، فالدين لا يرفض العرف الحسن.
وتأسيسا على المسألة السابقة فإن الفقيه الكرباسي يرى أنه: (يجوز صرف المال من الحقوق الشرعية في إصلاح المجتمعات نحو الأفضل)، ويعلق الفقيه الغديري على هذه المسألة منتقداً أولئك الذي يشترطون صرف الأموال الشرعية بإجازة مرجع التقليد، فيرى أن صرف الحقوق الشرعية: (لا يحتاج إلى إذن من المرجع وإجازته كما هو المتعارف في مجتمعنا الديني، إن القول باشتراط صرف الأموال الشرعية بإجازة المرجع لا دليل عليه، والتمسك بدليل حفظ النظام ودفع الإختلال في المجتمع في غير محلِّه)، ويبدي الغديري علامة استفهام كبيرة تعقبها علامة تعجب أكبر فيؤكد: (والعجب كل العجب من بعض وكلاء المراجع حفظهم الله تعالى جلّ شأنه يروجون أمثال هذه الآراء، وإنَّ موارد صرف الأموال الشرعية مذكورة ومبينة في رسائلهم العملية، ولا حاجة إلى إجازاتهم- على حدِّ تعبير بعض الوكلاء- مرة أخرى..).
ولكن المجتمع العربي أصابه ما أصاب المجتمعات الأخرى من أعراف لا تنسجم مع العقل وبالتالي فهي تتعارض مع الشرع، فعلى سبيل: (جرى في بعض المجتمعات أن من العيب على المرأة إذا طلقت أن تتزوج بعده، وبما أنه مخالف للشريعة، فإن مخالفة هذا العرف والعادة جائز بل في بعض الحالات أو المجتمعات يجب القضاء عليه، وبالأخص إذا أدى إلى فساد إجتماعي وأخلاقي)، كما (جرى في بعض الأعراف أن المرأة لا تتزوج بعد وفاة زوجها، ويعد من العيب القيام بذلك، بل هناك من يقوم من الأهل مقاطعتها أو القضاء عليها إذا تزوجت، فإن ذلك مما يجب محاربته)، ولهذا يرى الفقيه الكرباسي الحرمة في: (مقاطعة البعض أو تعيير النساء لمن تزوجت بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها منه .. ويجب على تلك النساء الكف عن ذلك، وعملهم يعد معصية) وكذلك: (مما جرى في كثير من الأعراف والمجتمعات أن المرأة لا تتزوج بعد موت زوجها بل تبقى في حالة حِداد لمدة سنة على أقل التقادير وهذا هو الآخر باطل، ولكن إذا أرادت المرأة برضاها الإنتطار لمدة سنة فلا مانع من ذلك)، وينتقد بعض الأعراف الإجتماعية التي تنحو إلى: (عدم تزويج البنت الثانية إلا بعد تزويج الأولى ليست له شرعية).
وإذا كان من العرف الإجتماعي العودة إلى زعيم القبيلة لإصلاح ذات البين وهو أمر حسن وجميل لفض النزاعات دون اللجوء إلى المحاكم، ولكن: (لا يحق لزعيم القبيلة أن يجري القصاص أو الحد دون إذن حاكم الشرع، ولا أن يحكم بما لم ينزله الله جلّ وعلا)، فـ: (التحاكم عند زعيم القبيلة فهذا لا بأس به إن تمّ طبق الشريعة وإلاّ كان باطلاً).
ولا يختلف عقلاء البشرية أن الله خلق الإنسان من أجل إعمار الأرض والعيش فيها بسلام ووئام، وما نراه من ظلم يقع على المجتمع كفرد ومجموع هو من عمل الإنسان نفسه الذي تتنازعه قوى الخير والشر، ولا يختلف هؤلاء العقلاء أيضا أن الإصلاح ليس من مسؤولية الأنبياء والأوصياء والأئمة فحسب، فهي مسؤولية كل فرد من آحاد المجتمع من ذكر أو أنثى، ألا: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) صحيح مسلم: 12/312، كما يقرر رسول الله الإنسانية محمد(ص)، وبه يصلح الفرد والمجتمع وتتحقق الحياة الطيبة كما يقول خالق الإنسان: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل: 97، وعندئذ يتحقق قوله تعالى: (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الأعراف: 96، وحتى يتوفر الإنسان على الحياة الطيبة فلابد من بناء المجتمع الصالح الذي لا تتعارض تقاليده وعاداته وأعرافه مع مقتضى الشريعة والعقل.
الرأي الآخر للدراسات- لندن