الحراك الشعبي المدني بين المرجعية الدينية والإنتلجنسيا الوطنية العراقية
د.عامر صالح
للفقر وعدم إشباع الحاجات الإنسانية آثاره العميقة في تشكيل حالة الإحباط وما تنتجه من كبت نفسي لدى المواطن, والتي يمكن أن تنعكس لاحقا في شتى سلوكيات الإرتاد والعنف ضد النظام السياسي المسبب لها, والناتجة من حالة الاغتراب بين النظام والمواطن, والتي تعتبر مصدرا خطيرا لنشأة الفجوات النفسية المدمرة !!!.
والاحساس بالفقر الناتج من انعدام ظروف العيش الكريم ينتج من الناحية الموضوعية وعيا معارضا بغض النظر عن مظاهر التعبير عن هذا الوعي. وتشكل الهبات الجماهيرية العفوية أو المنظمة احدى مظاهر هذا التعبير, وقد تتصاعد هذه الهبات الجماهيرية وتحصل عدة مرات وفي فترات زمنية مختلفة حتى تزول أسباب قيامها. وهي تستند الى نضج مستوى التناقض ودرجاته بين قوى الأنتاج وعلاقاته وحسب دورية الأزمات ومستويات تصاعدها المتفاقم.
الحراك الاجتماعي الشعبي العراقي ليست إستثناء عن هذه الظاهرة, بل يجسد بشكل واضح مرحلة خطيرة من مراحل الخلل المدمر بين قوى الانتاج وعلاقاته, بين القوى العاملة والشعب بعمومه من جهة, وبين الملاكين الأسياد, من قيادات الفساد الإداري والمالي المندمج مع السلطة السياسية ومراكز القرار, والذين يمتلكون الثروات ومفاصل الأقتصاد والقرار السياسي. وقد وصل هذا التناقض الى درجة لا يمكن العيش معه إلا بتغيره وتغير البنى التشريعية والتنفيذية والدستورية التي وفرت مظلة لأنتاجه !!!.
وعلى الحراك الشعبي المتعاظم ان يصل الى أقصى مداياته السلمية, مستمدا قوته من دينلميات الصراع الدائر بين طرفي نقيض: هو الشعب من جهة, والمفسدين السياسيين من جهة أخرى. ولكن المفارقة العراقية في تجربته أن هناك تداخل بين هذه العلاقة حيث تتداخل الأسباب بنتائجها على شكل مفارقة مضحكة ـ مبكية, وملخصها إن من أتى بهؤلاء المفسدين هي صناديق الإقتراع, من خلال تشويه ومسخ أراداة الناخب, ولكن في الديمقراطيات المستقرة العريقة إن العقل الجمعي يحاسب الشعوب على خياراتها !!!.
وللأسف ساد لأكثر من عقد من الزمن أجواء من العتمة والقنوط النفسي وضعف في الحراك الشعبي, وهو ليست حالة من الوعي الإنكفائي الخالص, بل هو تعبير ضمني عن تشوهات الوعي الناتج من تداخلات الدين بالسياسة, وبالتالي كان هذا الرضوخ يجسد نتائج الخطاب الإسلاموي المموه والكاذب والذي مارس غسيل دماغ وتعطيل للعقل العراقي وقدراته المعرفية ـ التشخيصية, مما أدى بالناس أن تبتعد نسبيا عن فهم مسببات الصراع وطبيعته وقوانينه والركون للقدرية والإستسلام للأمر الواقع, وإبقاء عوامل الرفض للواقع المتردي في الكمون !!!.
وحال رفع يدي المرجعية الدينية قليلا عن الاحزاب الاسلاموية, حتى بدأت بؤر الحراك الشعبي المدني تنطلق بقوة دفع تجاوزت فيه سقف مطالب المرجعية نفسها, فرب شرارة أحرقت السهل كله, وكأن كلمة المرجعية الدينية الموجهة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي, والتي بين ما تضمنته, بضرورة ضرب المفسدين بيد من حديد, وكأنها رسالة ضمنية الى الشعب العراقي برفع الحصانة عن الإسلام السياسي, كما فهمت من شعبنا, ولكن الحقيقية ليست كذلك, فالمرجعية الدينية مرتبطة أشد الارتباط بتعقيدات الوضع السياسي, ولها موازناتها الدقيقية والذكية في إدارة الصراع بين إقتتال الأخوة وأمتصاص الأزمات !!!.
ولكن حراك شعبنا عبر عن أزمة خانقة أندلعت وتهدد مستقبل بلد بكامله, وتهدد ضمنا بنهاية الإسلام السياسي ومؤسساته في العراق, فتداخلت المصالح المشتركة بين الحفاظ على مكانة المرجعية ومصالح شعبنا, فجاء التحذير لإسلامويين من خطورة الاوضاع التي تفني الجميع وتهدد بأسوء الخيارات الكارثية, وخاصة في ظل وجود الارهاب كبديل قوي يراهن على مزيدا من تفكك الاوضاع وشرذمتها وأنهيارات اللحظة, وهو على مقربة من بغداد !!!.
وأذا كان خطاب المرجعية يحمل للوهلة الاولى بصمات ثورية ويعبر عن مزاج سائد لدى أوساط شعبنا المحروم, لكن هذا لا يمنع من أن يكون للمرجعية سقفا محددا وتكتيكا يبقى ضمنا على مستوى من العلاقة بين الاسلام السياسي ومرجعيته الدينية. وإن جر آذان الاسلام السياسي من قبل مرجعيته تعبر عن مظهر شديد التركيز والاستقطاب وعقوبة شديدة نسبيا, ومعبرة عن تلك العلاقة الابوية ـ البطريركية بين الاسلام السياسي ومرجعيته !!!.
من هنا تأتي أهمية دور الإنتلجنسيا العراقية الوطنية, من مثقفين, ومفكرين, وكتاب, وأدباء, وصحفيين ونخب سياسية, والمشهود لهم في ولائهم للوطن وفي استقرائهم للاحداث بعيدا عن الخندقة والمساومات الطائفية والعرقية والشوفينية الانتهازية, تلك الفئة الاجتماعية الخلاقة في الفكر والممارسة في السياسة وعلم الاجنماع والقادرة على استخدام المنهج العلمي في قراءة الظواهر الاقتصادية والاجتماعية بهدف الوصول الى نتائج مقبولة لحل مختلف الاختناقات السياسية والاقتصادية. وهي تختلف كل الاختلاف عن تلك الفئة من ” المثقفين ” الذين أصبحو كلاب حراسة لطوائفهم وأنتمائتهم الاثنية الضيقة !!!.
أن تلك الفئة من الانتلجنسيا الوطنية قادرة على احتواء المد الشعبي المتصاعد على خلفية المراوحة في المكان والمراوغة في عمليات الاصلاح, وتأمين مسارا سلميا لعمليات الحراك الشعبي, من خلال توعية الناس بضرورة الابتعاد عن اعمال العنف والتهديد بالزحف والهجوم على مقرات السلطات العليا, من برلمان, ورئاسة الجمهورية, ورئاسة الوزراء وسلطة القضاء العليا, وتعزيز مبدأ ان شعبنا ينتفض من اجل انتزاع حقوقه المشروعة سلميا ولا يثور, وعزل وسائل الاعلام والقنوات الفضائية التي تدفع لمزيدا من التصعيد والعنف والتحيز في نقل الاحداث والاخبار وفبركتها من أجل بديل عبثي يسهل إختراق الارهاب وتحويل العراق الى ساحة مكشوفة لكل الصراعات الدموية !!!.
وتسهم تلك الانتلجنسيا الوطنية الحاملة للمعرفة والفكر والثقافة الانسانية في خلق أجواء معرفية سليمة تضع المنتفضين في حالة من الوعي والادراك السليم لما يجري, بعيدا عن سلوكيات الحشود الانفعالية الضارة لمصالح شعبنا, والمؤطرة بدوافع تصفية الحسابات السياسية والسياسية الطائفية الضيقة, كما تلعب دورا في حماية التظاهرات من التسييس والاختراقات الحزبية, وتأمين مسار سلمي متصاعد للحراك الشعبي يفضي الى حلول لأبرز المشكلات التي يعاني منها شعبنا, ويجنب الصدام مع القوات الامنية التي لازالت مهنيتها تفتقد الى الكثير من العمل, لمواجهة الحراكات الشعبية المشروعة !!!.
أن كل عمليات الحراك الشعبي المطلبية تنطلق شرارتها الاولى من خلال جهد شعبي عام, سواده الاعظم من الفقراء والمعدومين والكادحين, وتبقى هذه الحراكات محفوفة بالمخاطر والانتكاسات وفي انعدام أفقها اذا لم تتصدرها قيادات فكرية وثقافية مخلصة تساعد المنتفضين في تحويل استجابتهم الانفعالية الاولى وغضبهم المشروع الى فعل استراتيجي يؤدي الى تحقيق مطاليبهم.
لقد مر على الانتفاضة العراقية شهرا تقريبا, تمت فيها رسم ملامح التغير القادم من خلال المطاليب الاتية, والتي تعكس التأثير الواضح لللنخب العراقية المثقفة, والتي تتمثل في ترتيب أولويات مطاليبه من ماء وكهرباء وخدمات وايجاد فرص عمل واعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية المدمرة وايجاد فرص للعيش الكريم, الى جانب مطالب ذات بعد استراتيجي كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا.
وفي الختام نقول اذا كانت المرجعية الدينية أعطت زخما انفعاليا وقوة دفع لإنخراط شعبنا في البحث عن حلول لمشكلاته, فأن الوقت قد حان لتحويل تلك الانفعالات الى عمل عقلي رفيع المستوى لتنفيذ مطاليب شعبنا, وهو عمل صعب واختصاصي يستدعي تدخل النخب العراقية المهنية والمثقفة وذات الصلة بمصلحة الوطن, بعيدا عن زج الدين بالسياسة, فلا زالت تجارب الاسلام السياسي مثخنة بالجراح ولازال مستقبل شعبنا قاب قوسين !!!.