من الواضح ان النخب السياسية العراقية لم تع بعد فكرة القانون. وأنا هنا أتحدث عن الجميع، ملكيين وجمهوريين، دكتاتوريين وديمقراطيين مفترضين، جميعهم تعاملوا مع القانون بوصفه أداة ووسيلة لغايات سياسية مباشرة، فهو ليس أكثر من سطر يكتبه القابضون على السلطة،
ويمسحونه أنى شاءوا، يعلقونه أو يحيدونه أو يستعملونه متى أرادوا، وبالطريقة التي يريدون، وليس بوصفه قاعدة عامة مجردة، الغاية منه تنظيم وضع المجتمع والدولة معا، وآلية مرتبطة بنظام القيم التي تعطي لحياة الإنسان معناها. يتحدث اللورد دينيس لويد في كتابه “فكرة القانون” الصادر ضمن سلسلة علم المعرفة الكويتية عن أن “الكثير من هالة الشرعية التي تحيط بسلطة القانون مرتبط بالاعتقاد بالتزام أخلاقي لطاعة القانون”، ولكنه ينبه أيضا إلى ضرورة التمييز بين القانون والمعايير الأخلاقية، فالأول ” يستلزم التقيد به بانتظام” في حين تظل القاعدة الأخلاقية قائمة وإن لم يلتزم بها. ويشدد لويد على أن القانون يجب أن يكون رديفا للعدل، وأنه دعامة أساسية للديمقراطية، يقول: “مادام من غير الممكن تطبيق المساواة الصارمة في كل المجالات، فإن التعبير الصحيح عن التنظيم الديمقراطي للمجتمع هو المساواة القانونية (المساواة أمام القانون)، ولا أحد فوق القانون، والحقوق السياسية العالمية، إضافة إلى مبدأ عدم التمييز بسبب العرق أو اللون أو العقيدة”.في النهاية، فإن تطبيق القانون يبقى المسؤولية الأولى والرئيسة للدولة، عبر سلطتيها القضائية والتنفيذية، ولا بد من أن يكون هناك بداية إرادة حقيقية لدى النخب الحاكمة للالتزام بفكرة القانون نفسها.لست على خصومة شخصية مع السيد علي الدباغ، الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية. ولم يسبق لي الالتقاء به شخصيا إلا من خلال أحد برامج قناة الحرة الحوارية التي اشتركنا فيها معا. ولكني وطوال الأسبوعين الماضيين، شاهدته في أكثر من لقاء تلفزيوني حول انتخابات إتحاد كرة القدم العراقي، مدافعا شرسا عن القانون العراقي وسيادته، وعن هيبة الدولة التي لا تتحقق إلا بتطبيقها لقوانينها النافذة، ومرددا جملة أنه ليس هناك من أحد فوق القانون. فلنتحدث إذا عن قانونية لقب “دكتور” الذي يحمله السيد الدباغ و يسجله في المحافل الرسمية! نحن نعلم أن أية شهادة جامعية لا تأخذ شرعيتها إلا من خلال اعتراف الدولة التي يعمل فيها الحاصل على تلك الشهادة بها. وفي العراق حصر القانون سلطة الاعتراف بالشهادات الجامعية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فقد أشار قانون الوزارة رقم 40 لسنة 1988 في المادة الرابعة/2/سادسا إلى أنها تتولى “وضع أسس التقويم للشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية التي تلي مرحلة الدراسة الثانوية والاعتراف بالمؤسسات الجامعية العلمية العربية والأجنبية وتحديد الألقاب والشهادات العلمية والفخرية وشروط منحها”. وقد جاءت هذه الأسس من خلال قانون رقم 5 لسنة 1976، الذي أكد على السلطة الحصرية للوزارة في معادلة الشهادات (المادة 2)، وقد جاء في القانون انه يجب ” أن لا تقل إقامة الطالب لغرض الدراسة في بلد الجامعة المانحة عن المدة المقررة لدراسة الدبلوم العالي وعن مدة مجموعها سنة دراسية واحدة للماجستير أو للدكتوراه بعد الماجستير أو سنتين دراسيتين للدكتوراه بعد الجامعية الأولية أو الأولية العالية وتأخذ اللجنة بنظر الاعتبار مدة البحث الميداني أو أي مدة أخرى تقرر الجهة العلمية المسؤولة ان يقضيها الطالب في بلد آخر واعتبارها من ضمن الإقامة على ان لا تتجاوز ثلث المدة المطلوبة وعلى ان يكون البحث الميداني قد تم بإشراف عضو هيئة تدريسية تعتمده الجهة المانحة مسبقا ولا يدخل في حساب ذلك المدة اللازمة لدراسة اللغة واستكمال المتطلبات الأخرى” (المادة 6 ج). كما نص القانون نفسه على أن الوزارة لا تعترف بـ ” الشهادات الصادرة بموجب الدراسة بالمراسلة أو الانتساب” (المادة 7/ ثانيا). وقد بدت الوزارة حريصة على إعلان هذه الأسس من خلال إفراد أيقونة خاصة بالتعليم عن بعد عل موقعها الالكتروني تنبه فيه إلى أنها لا تعترف بأي نوع من الدراسة ممن يعتمد مبدأ التعلم عن بعد، لأن ذلك يخالف القوانين النافذة. بل ان الوزارة أصدرت في 27/7/2009 بيانا صحفيا كررت فيه عدم اعترافها بأية شهادة تتم عن بعد، وأشار البيان إلى ان ” الأمانة العامة لمجلس الوزراء قد أصدرت في (12/2/2009) و(6/4/2009) أوامر لوزارة التعليم العالي تقضي بحثها على عدم الاعتراف بالجامعات والمعاهد التي تعتمد نظام التعلم عن بعد”. في موقع مجلس الوزراء، وتحت أيقونة رئاسة مجلس الوزراء نجد صفحة التالية: ” مكتب الناطق الرسمي باسم الحكومة “الدكتور” على الدباغ. وفي الصفحة الخاصة بالسيرة الذاتية للسيد الدباغ في الموقع نفسه، نقرأ أنه قد تحصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة بغداد عام 1977، وعلى ماجستير هندسة تلوث البيئة من أمريكا عام 1983 (من دون الإشارة إلى الجامعة)، ومن ثم ” دكتوراه أدارة أعمال- بريطانيا (عن طريق الإنترنيت)– 2003″ (من دون الإشارة إلى الجامعة مرة أخرى). ما الذي يعنيه ذلك، ببساطة شهادة الدكتوراه التي حصل عليها السيد الدباغ عن بعد غير معترف بها قانونا، ومن ثم لا يجوز له قانونا استخدام لقب “الدكتور”، ولكنا وجدنا هذا اللقب صريحا في موقع رئاسة مجلس الوزراء، ووجدنا اللقب يتكرر أكثر من مرة في موقع رئاسة الجمهورية، ووجدنا اللقب يتردد في جلسة مجلس النواب رقم 29 في 23/7/2009 الخاصة بالتصديق على ترشيحات السفراء، ووجدنا اللقب في الملصقات الدعائية الخاصة بتجمع كفاءات العراق المستقل في انتخابات عام 2005، من دون ان نعرف موقف المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من ذلك، وأخيرا لم نجد أي موقف من هيئة النزاهة تجاه هذا الموضوع، صحيح ان الموضوع ليس تزويرا، ولكنه على اقل تقدير انتحال لصفة لا يعترف بها القانون العراقي.في مقالة سابقة تحدثت عن البدوي الذي اكتشف أن العراقيين يحكمون بالقانون نهارا، ويرقصون على أنغامه ليلا، فما كان منه إلا أن ولى هاربا شطر الصحراء، أتساءل اليوم كم من العراقيين عليهم ان يفروا من بلادهم قبل ان يحصل الوعي بفكرة القانون.