لم نستطع حتى الساعة أن نفك رموز اللغز الكبير الذي أطلق على سلسلة من العمليات الضخمة التي مارستها المخابرات الأمريكية بحق الإتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة التي قاربت /55/ عاما مارس خلالها الفريقان ألوانا شتى من العمليات السرية التي أميط عنها اللثام مع انهيار الإتحاد السوفييتي وبداية القرن الحادي والعشرين . ومن بين العمليات السرية التي قامت بها المخابرات المركزية الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي كانت عملية AEDINOSAUR الشهيرة والتي تعد من العمليات الغريبة في تاريخ حروب المخابرات .
يحكى أنه في بين عامي 1952 و1957، نفذت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ما يعرف بعملية AEDINOSAUR أطلقت خلالها مناطيد من ألمانيا الغربية تحمل نسخاً من رواية مزرعة الحيوان لتسقطها وترمي بها في دول الستار الحديدي التابعة للاتحاد السوفييتي مثل بولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا. وقد كتبت هذه الرواية في وقت مبكر من عام 1944 وعانى كاتبها الأمرين في محاولة نشرها ولكن رفضتها جميع دور النشر البريطانية في ذلك الوقت . هذه الرواية الصغيرة والعالمية في نفس الوقت، التي لا تزال حتى يومنا هذا تحقق نسبة مبيعات عالية رُفضت من عدة دور نشر كبيرة.
فمحرر دار “فابر أند فابر” وهو الشاعر والمحرر والكاتب الكبير ت. إس. إليوت، رفض نشر رواية مزرعة الحيوان لأسباب غير مقنعة فقد استهجن إليوت استهزاء الرواية من الاتحاد السوفييتي وتحديداً من زعيمه جوزيف ستالين الذي كان حليف بريطانيا في الحرب العالمية الثانية. كما رفض جوناثان كيب، الناشر البريطاني للكاتب الشهير إرنست همنجواي، نشر الرواية وذلك بعد التشاور مع وزارة الإعلام البريطانية في زمن الحرب.
وأخبر أحد الناشرين أورويل بأنه “من المستحيل بيع مزرعة الحيوان في الولايات المتحدة”. وكاد أورويل الذي أصيب بالكآبة أن يفقد الأمل بالحصول على موافقة دار نشر لكتابة و بدأ التفكير في النشر الذاتي للرواية رغم المخاطر الكبيرة .
وفي شهر تشرين الأول عام 1944 وافقت دار سيكر ووربيرغ البريطانية على نشر الكتاب. لكن الحصة المحدودة للشركة الصغيرة من مخزون الورق المقنن نتج عنها تأجيل نشر الكتاب حتى آب من عام 1945. و في نهاية المطاف ورحلة العذاب، حققت مزرعة الحيوان نجاحاً كبيراً بعد نشرها.
كانت رواية مزرعة الحيوان ممنوعة في دول الاتحاد السوفييتي حتى وقتٍ قريب من انهياره. وفي عام 1988 عندما أزالت سياسات الرئيس الأخير للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف القيود عن دول الاتحاد السوفييتي، نشرت مجلة رودنيك في لاتفيا التي كانت إحدى دول الاتحاد السوفييتي رواية مزرعة الحيوان على أربعة دفعات.
كما نشرت صحيفة أزففستيا الحكومية الروسية مقتطفاً من الرواية في وقتٍ لاحق من ذلك العام، قائلة: “من الجيد أن يصل نثر هذا الكاتب الإنجليزي العظيم إلى قرائنا، وإن كان متأخراً”.
وقد حظرت العديد من الحكومات الأخرى رواية مزرعة الحيوان مثل: كوريا الشمالية والإمارات وبعض بلدان في إفريقيا.
وحظرت في كوبا أيضاً، وفي دولة مالاوي اتهم وزير الحكومة ألبرت موالو بالخيانة وشنق عام 1977، وكان أحد الأدلة المزعومة على خيانته هو امتلاكه رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل الذي كان محظوراً فيها.
وفي عام 1991، حظرت الحكومة الكينية مسرحية باللغة السواحلية مستوحاة من رواية مزرعة الحيوان.
لقد تحولت الرواية التي تجري على لسان الحيوانات في مزرعة ريفية إلى عمل خطير تخافه الحكومات .
تحمل رواية مزرعة الحيوان عنواناً فرعياً”Fairy story” ومعناه ” قصة خرافية” تسقطه دور النشر عن جهل من الكتاب وبهذه العبارة يقصد أورويل أن الحكاية مبسطة ومسطحة عن قصد. فالشخصيات نمطية عن قصد، ومن المفترض أن تكون المؤامرة سهلة الفهم. والقارئ ينخرط فيها وهو يقرؤها لأنها بسيطة جداً، لكنها مروعة جداً عندما يفكر المرء في تفاصيلها جيداً.
لقد كتبت الرواية بطبقتين مهمتين : الأولى القصة السطحية المبسطة والثانية هي الرسائل التي تدور بين السطور . فالقارئ العادي يهتم بسحر تتالي الأحداث وتعاقبها وأما القارئ المتخصص فيهتم بالرموز الكثيرة التي وردت في الرواية .
تم تخصيص جزء كبير من الرواية لهدفٍ واحد هو: بناء طاحونة هوائية، وهو رمز لكل خطط ستالين الخمسية ومن سار على نهجه لتغيير المشهد الاقتصادي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية.
إنها تلهم الجماهير في كل ما يفعلونه وتعوِّضهم عن كل ما يفتقرون إليه. كما يكتب أورويل: “لقد مروا بسنةٍ صعبة. لكن طاحونة الهواء عوضت كل شيء”. يستغرق بناء الطاحونة سنوات، وبمجرد الانتهاء منه أخيراً، يقرر الخنزير نابليون وهو القائد في الرواية أن يبدأ العمل على مشروع آخر.
وكما كان يفعل البيروقراطيون السوفييت ومن يسير على نهجهم ، تركز المزرعة على بناء طواحين الهواء بسرعة، ما يجعلها هدفهم الأساسي دون باقي الأهداف. الطاحونة هي هدف بعيد يحافظ على الحيوانات ملهمة وطموحة وصاحبة هدف بما يكفي للعمل بجد دون شكوى، ومع ذلك لا تعود عليهم بفائدة حقيقية، وهو وضع يدركه نابليون ويستغله ولكن يسير على هذا النهج دون كلل أو ملل .
على مدى سنوات عديدة ظلت وكالة المخابرات الأمريكية تنظم وتدير جبهة ثقافية عريضة في معركة ضارية بدعوى حرية التعبير وكان مفهومها للحرب الباردة، بأنها معركة من أجل الاستيلاء على عقول البشر وبعد أن سكت هدير المدافع وأزيز الطائرات ودوي القصف أخرجت الترسانة أثقالها الثقافية: الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية والمنح والجوائز، وتكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع المخابرات المركزية الأمريكية لتمحو من الأذهان فكرة أن أمريكا صحراء ثقافية لتزرع فيها فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة إلى سلام أمريكي والى عصر تنوير جديد وأن ذلك كله سيكون اسمه “العصر الأمريكي” . وقد تكونت أدوات المخابرات المركزية الأمريكية من يساريين سابقين ومثقفين يساريين من الذين تحطم إيمانهم بالماركسية والشيوعية ومؤسسات وهمية وتمويل سري ضخم وحملة إقناع هائلة في حرب دعاية ضاربة تخطط لها وتديرها منظمة الحرية الثقافية التي كانت بمثابة وزارة غير رسمية للثقافة الأمريكية و الزمار الذي تدفع له المخابرات الأمريكية مثله مثل المجتمع المدني الحالي ثمن ما تطلبه منه من ألحان. ولا أحد يستطيع أن ينكر الحقيقة والتاريخ يتعرض لعمليات التغلغل والتسلل الأمريكي عبر الرواية والفيلم وقطعة الموسيقى والمسرحية والقصيدة والتفاصيل التي يزدحم بها التفسير بمنتهى البساطة كيف تخلخلت أنظمة عملاقة وتداعت هياكلها وكأنها عروس من القش ليصبح العصر الأمريكي أمريكيا وليعيش العالم السلام على الطريقة الأمريكية! لقد استغرق تحويل هذين الشعارين إلى واقع معاش أكثر من خمسين عاما، ففي عام 1947 أنشأت الحكومة الأمريكية وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وفروعها العديدة وكان الهدف منها خلق جهاز مسؤول يتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة وكان أول أعمال الجهاز تكوين جبهة ثقافية يعمل من خلالها لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية “سالكونسوريتونس” هو الاسم الذي أطلق على هذا الجهاز الذي اعتمد على فقرة بسيطة للغاية وهو التقاط ضحايا القهر الستاليني عبر الدعوة لكتابة مقال أو مسرحية أو المحاضرة في ندوة و إنشاء المراكز الثقافية الأمريكية كان وراءها سياسة نشر المفاهيم الأمريكية بالصورة والموسيقى.
لقد تورط مثقفون ومفكرون كبار من المعادين للشيوعية، أو من الماركسيين السابقين مع المخابرات الأمريكية مثل الفيلسوف برتراند راسل و جورج أورويل و أرنولد توينبي وهربرت سبنسر و سيدني هوك و وروبرت لويل و حنا أرنت و آرثر ميللر و إيليا تولستوي (حفيدة الروائي الروسي الشهير) و أندريه مالرو و جون ديوي وكارل ياسبرز و إلبرتو موارفيا و هربرت ريد و ستيفن سبندر و أودن و نارايان الهندي و ألن تيت و إيتالو كالفينو و فاسكو براتوليني، فضلاً عن فنانين مشهورين تشارلي شابلن و مارلون براندو ، بل إن المخابرات المركزية عملت على تغيير بعض أحداث ونهايات روايات جورج أورويل مثل ما حدث مع روايات «مزرعة الحيوانات و ورواية “1984” لتخدم أهدافها، فهذه الروايات التي تحولت إلى أعمال درامية والتي دهش بها المثقفون والمتلقون العاديون خاصة فيما يعرف بالعالم الثالث هي من نتاج عمل المخابرات، فالمخابرات قامت بتمويل الفيلم الكرتوني مزرعة الحيوانات، المأخوذ عن رواية أورويل ووزعته في أنحاء العالم، كما قامت بوضع نهايتين مختلفتين للفيلم المأخوذ عن رواية 1984 واحدة للجمهور الأمريكي، وأخرى للجمهور البريطاني حيث كانت النهاية السعيدة في مزرعة الحيوان في العمل الدرامي هي أن تطلب مساعدة الخارج إذا أردت حل المشكلة القائمة في بلدك .
إنها الإيديوقراطية الأمريكية التي تحاول فرض وجوها حتى الآن في كل مكان من هذا العالم في عمليات AEDINOSAUR جديدة بحلة جديدة .
محبتي لكم .
AEDINOSAR
اترك تعليقا