حوار بين الأديبين عبد الله المتقي وحسن سالمي
بداية ماذا تقول عن حسن سالمي ساردا تونسيّا؟
قبل كلّ شيء أقدّم لك جزيل شكري أديبنا السّامق عبد الله المتّقي على هذه المصافحة. وجوابا عن سؤالك أقول حسن سالمي هو أديبٌ تونسيٌّ ولد ببلاد الجريد سنة 1971. تفتّحت قريحته منذ بدايات تسعينات القرن الماضي، واختار ان يراكم تجربته في الظّل إلى حدود ربيع سنة 2014 حيث أصدر مجموعة قصصيّةً بعنوان “التيه” ثمّ انهمر الغيث فأصدر رواية “البدايات”، ثمّ “زغدة”، مجموعة قصصية، ثمّ “الإشارات”، دراسات نقديّة. ثمّ “الدماء لا تنبت القمح”، قصص قصيرة جدّا. ثمّ “مأدبة للغبار” قصص قصيرة جدّا. ثمّ “الطّيف” رواية متحصّلة على جائزة توفيق بكّار للرّواية العربيّة. ثم “غوانتانامو” رواية صدرت خلال شهر فيفري 2022. وله تحت الطّبع: “أنا وظلّي” قصص قصيرة جدّا تحصّلت على جائزة فاطمة بن محمود للقصّة القصيرة جدّا نظّمتها مجلّة أوراق مبعثرة. ورواية “المحاق” في جزئين، فضلا عن مخطوطات أخرى في القصّة القصيرة جدّا والقصّة القصيرة والرّواية للنّاشئة تنتظر فرصة الخروج إلى النّور.
من أين تشكّل عالمك القصصيّ والرّوائيّ، وما دور البيئة المحيطة بك في ذلك؟
ما من تجربة إبداعيّة إلّا وتكون قادحتها الأولى هي الموهبة. شيء نجده فينا دون أن نختاره، وقد تسبقه ارهاصات متقاربة أو متباعدة في الزّمن تبشّر بحالة إبداعيّة قادمة. وشخصيّا حين أعود بالذّاكرة ألمس تلك الارهاصات في الطّفولة الأولى، حيث كان الخيال وثّابا والذّهن الغضُّ الطريّ ميّال إلى عالم الأحلام والسّحر، تارة أجده (أي الخيال) في ما وقع بين يديّ من حكايا وكتب وأفلام ونحوها، وتارة أجده ينبع من ذاتي فإذا رغباتي الدّفينة تتحوّل الى أحلام في اليقظة أصنع منها ما أشتهي وأشاء. حتّى إذا مرّ الوقت ودون الخضوع إلى منهج واضح أو عناية خاصّة أفصحت تلك الموهبة عن نفسها واتّخذت شكلها ضمن عالم السرد ومحيطه الواسع، وطبعا هذا الإفصاح لا يكون إلّا بعد رحلة طويلة مع الكتب ومع كلّ ما يمتّ الى الثّقافة والمعرفة بصلة. وقبل ذلك وبعده التّجربة الشخصيّة مع الحياة ثمّ تجارب الأقربين ثُمّ وثُمّ… أمّا بالنّسبة إلى الشّطر الثّاني من سؤالك فلا شكّ في أنّ البيئة المحيطة هي الحاضنة الأولى لتلك الموهبة. فما تشكل في وجداننا ومشاعرنا وأذهاننا من ذخائر لا سيما في فترة التّلقّي الأولى هي التي تطبع الحالة الإبداعية وتظل النّبع الذي نعود اليه سواء وعينا بذلك أم لم نعِ. وهذه العمليّة ليس بالضّرورة أن تكون خاضعة للقصديّة والخطط المسبقة، إذ البيئات العربيّة في عمومها لا تعتني عناية مباشرة بالمواهب وإن ظهرت ارهاصاتها باكرا، ولا تخضعها إلى برامج علميّة تفجّر فيها أقصى ما يمكن من طاقة. إنّما عمليّة التفاعل تلك تأتي في سياقات عشوائيّة بغير خيوط ناظمة في الظّاهر، ولكنّها تلتقي على أمر قد قُدِر فيكون الابداع بشطآنه البعيدة وأسراره التي لا تنتهي.
أنت كاتب متعدّد، روائي وقاص وامض وكاتب مقالة، فأين تبني خيمتك وتستريح؟
أعتبر الرواية والقصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدّا، وأدب الناشئة والمقالة والدّراسات النقديّة غرفا متعدّدة لبيت واحد، تفضي بعضها الى بعض ضمن فضاء واحد هو فضاء السّرد، ويمكن أن تنفتح كلّ غرفة على ما يناسبها من العالم الخارجي. لكنّها تظلّ مرتبطة بأخواتها على نحو ما. والذي يحدّد استراحتك فيها هي حاجتك إليها في وقت معيّن. وهذه الحاجة تحدّدها الفكرة والقضيّة والرّسالة التي تشتغل عليها، فتدرك بحدسك الإبداعي أنّ الإفصاح عنها يكون حصرا بواسطة هذا الجنس الأدبي وليس بذاك. والأديب هو أشبه ما يكون بالطّاهي المحترف لا يجوز له أن يلقي كلّ ما في مطبخه في قِدر واحدٍ ودفعة واحدة. وإلّا كانت الوجبة التي سيقدّمها سيّئة للغاية على مستوى الطّعم والذّوق معا… وملخّص القول كلّ جنس من تلك الاجناس السرديّة التي ذكرت، هي محطّات استراحة بالنسبة لي تحدّدها الحاجة منها.
تجربتك في القصة القصيرة جدا حقّقت فرادتها تونسيا وعربيّا. كيف استطعت تشييد هذا المختبر القصصي؟
بادئ ذي بدء دعني أعترف بأنّ القصّة القصيرة جدّا هي أصعب جنس ابداعي كتبت فيه. وتبين لي هذا لمّا نزلت من سماوات التّنظير إلى أرض التّطبيق. حتّى أنّه أتى عليَّ حين غشِيني منها اليأس فأوشكت أن انفض يدي من كتابتها! ومردّ ذلك كما أزعم يعود الى وعيي الشقيّ بها! ذلك أنني كنت وما زلت أعتقد أنّ القصّة القصيرة جدّا هي عالم في نقطة، وبحر في قدح. والمعادلة كيف لي أن اجمع بين هذين النّقيضين دون الخروج عن نظم القصّة ونواميسها؟ وكيف لي أن أخالف السّائد وأصنع بصمة تميّزني في هذا البحر المتلاطم من القصص القصيرة جدّا؟
وعليه فلقد حاولت المحافظة على هويّة القصّ دون تماه مع أجناس إبداعيّة أخرى. ذلك أنّ القصّة القصيرة جدّا تقع في خطّ التماس مع قصيدة النّثر والشّعر عموما فضلا عن القصّة القصيرة والطُرفة والنّكتة والخبر واللقطة وما إلى ذلك من طرائق التّعبير… القصّة القصيرة جدّا تستوعب ذلك كلَّه وتقترب منه في حذر شديد دون أن تكون أيّ أحدٍ منها في النّهاية… لم أعدم المحاولة من جهة ثانية من استيعاب الجانب النّظريّ في كتابة القصّة القصيرة جدّا واختلافي معه أحيانا حتّى أثبت أنّ احتمالات كتابة هذا الجنس الصّعب دائما تظلّ مفتوحة وهو لا يمكن أن يتجمّد داخل أطر معيّنة أو في قوالب جاهزة مهما كانت النظريّة التي تقف وراءه… من جهة ثالثة داومت الاشتغال على إحداث التنوّع في دوائر مختلفة. مثل دائرة القضايا الحارقة التي تهمّ النّاس وتعبّر عن مشاغلهم. وهذه القضايا تتوزّع على الاجتماعي والسياسي والقيمي والنّفسي والفلسفي. الخ… الخ… كذلك اشتغالي على تنوّع الفضاء في النّصوص كذا الشّخوص والاقتراب من تناقضات الحياة في مجتمعنا بنسبها المختلفة. فضلا عن ضرورة الاشتغال على تنوّع الأساليب ومستويات اللّغة ومحاولة استثمار تقنيات الرّواية والقصّة والسيناريو والمسرح واستدعائها إلى القصّة القصيرة جدّا.
عناوينك القصصيّة والروائيّة مخاتلة ومثيرة للتّأويل والاحتمال، وميّالة للمواجهة والصّدام. ما القصّة؟
أشكرك على إثارة هذه النّقطة فملاحظتك في محلّها تماما… والسّرّ يعود الى اعتقادي الجازم بأنّ العنوان لا يقلّ أهميّة على تخوم النّص. ليس لأنّه العتبة الأولى التي تعترض القارئ وعليها المعوّل في جذبه فحسب، ولا لأنّه فقط يمنح هويّة مخصوصة للأعمال فتعرف به وتميّزها من غيرها، بل لأنّه أيضا حمّالُ جمالٍ كان ومازال قبلةً للفنّ وهدفا من أهدافه. ومبعث جمال العنوان يأتي من تلك المنطقة السّاحرة المثيرة للغموض والسّؤال والمستفزّة لخيال المتلقّي ومشاعره، والتي تحيله في نفس الوقت على زبدة النّص دون تهويل أو مبالغة… والحقّ أنّ العنوان يأخذ منّي وقتا للتّفكير أكثر الأحيان. وأظلّ حتىّ اللّحظة الأخيرة متهيّبا منه، وأحيانا أجعل له بدائل عديدة لأتخيّر منها ما هو مناسب بعد وقت… يعجبني عنوان ما ثم لا يلبث ان يخبو سحره في نفسي فأبحث عن غيره. وهكذا أظلّ على قلق…
ما حكاية هذا التحول من النّزعة القصصيّة الموجزة إلى النّزعة الروائيّة الشّاسعة والمتشعّبة؟
الصحيح ان نعكس السؤال. ما حكاية التحوّل من النّزعة الروائيّة الشّاسعة الى النّزعة القصصية الموجزة؟ وذلك ببساطة لأنّ النّص الموجز ظهر مؤخّرا في حياتي الإبداعية (سنة2017 فقط) وكنت قبل هذا التاريخ أحاول السباحة في محيطات الرواية وبحور القصة القصيرة. كما أسلفت انطلقت تجربتي مع السّرد منذ بدايات تسعينات القرن الماضي، ممّا جعل تحت يدي كمًّا من التّجارب الروائيّة والقصصيّة نبتت في الظّل بعيدا عن الضّوء والضّجيج. منها ما اكتمل ومنها ما لا يزال منقوصا، ومنها ما يصلح للنشر ومنها ما لا يصلح. هذا فضلا عن الاعمال التي سبق أن عرّفت بها في مطلع حوارنا. ما أريد قوله ابتدأت مع النّفَسِ الطّويل في السّرد أوّلا، ثمّ وجدتني أجرب كتابة القصّة القصيرة جدّا. مدفوعا إليها من اعتبارات ثلاثة، أوّلا لأنّها جنسٌ سرديٌّ وعليَّ كساردٍ أن أخوض غماره وأركب المغامرة فيه بقطع النظر عن النتائج، دون الاكتفاء بالنّظر اليه من بعيد. وقديما قالوا ليس الخبر كالعيان. الاعتبار الثّاني، محاولتي الوصول الى القارئ في العالم الأزرق وافساح مكان لتجربتي في عالم الأنترنيت. خصوصا بعد أن بدأ الكتاب الورقي يمرّ بظروف صعبة حالت دون وصوله إلى القارئ من جهة ولانكماش طبقة هذا الأخير من جهة ثانية. وطبعا أنسب جنس للحضور في العالم الجديد هو النّص الوامض، والنّص القصير جدّا… أمّا الاعتبار الثّالث فيعود إلى القصّة القصيرة جدّا في ذاتها. ذلك أنّها رغم صعوبة مراسها وقدرتها على الزجّ بكاتبها في محرقة الأعصاب والصّداع تمنحه خمرةً ما. لذّةً ما. تكشف فيه طاقةً ما مختبئة في أعماق أعماقه…
حصلت على جائزتين عربيتين، في الرّواية والقصّة القصيرة جدّا، فما الذي منحك هذا الاستحقاق؟ وهل التفت إليك النقد؟
هذا أصعب أسئلتك على الاطلاق خصوصا جزأه الأول. وأراه مخاتلا نوعا ما. ذلك أنّه يحيلني على تقييم نفسي بنفسي على الملأ، وهذا أصعب ما في الأمر. والاسترسال في الإجابة عنه ربما يزلق بي في دائرة العجب والغرور وهذا لعمري مرض أخشاه وأتجنّبه ما استطعت الى ذلك سبيلا. وأدنى ما يمكنني قوله أنّ الصّدق مع النّص أوّل بوّابات النّجاح. والصّدق يقتضي الاعداد الجيّد وبذل الجهد. وتوطيد العزم على البحث عن الجمال والمختلف والأرض غير الموطوءة. أمّا القسم الثّاني من سؤالك يمكنني القول بأنّ النقد التفت اليّ ربع التفاتة فحسب! وهذا الرّبع شكّلتها قراءات عاشقة في الغالب، تلقي الضّوء على مواطن الجمال من وجهة نظر كُتّابها. لكنّها لا تشاكس ابداعاتي ولا تنصب لها المرايا لأرى فيها ظلا غفلتُ عنه أو نورا صنعتُه دون الانتباه إليه. أما النّقد الأكاديمي وعليه المعوّل فلم أنل شرفه بعد؟ ولك أن تسألني لماذا؟
أكبر الأسباب هو تعثّر وصول كتبي الى القارئ والنّاقد لخمولٍ في التّوزيع، ولتخلّي دور النّشر عن واجبها، مكتفيةً أكثر الأحيان بمنحة وزارة الثّقافة ثمّ الغبار والنّسيان بعد ذلك ولا تبالي. سبب آخر يتعلّق بالوضع الذي آل اليه النّقد في مجتمع الثقافة العربي عموما، ليس فقط على مستوى الانكماش والضّمور والتّكاسل، وإنّما أيضا يتعلّق بالجانب الأخلاقي. لقد أفسدَ النّقدَ في وطننا الكبير منطقُ الشلاليةِ وكسبُ المصالحِ الآنيةِ الضيّقةِ وتبادلُ المنافع. دون اعتبار للنّصوص الإبداعية في ذاتها. وشخصيّا أبغض هذا الطريق وأكره المشي فيه مكتفيا بصومعتي، معوّلا على الزّمن…
يرى لويس ماتيو دييس أنّ ” القصّة القصيرة جدّا هي الانطلاق من نقطة صغيرة إلى أخرى جد كبيرة.” ما تعليقك؟
هذه الكلمة عميقة جدّا ومخاتلة وحمّالة أوجه. وأوّل ما يتبادر إلى ذهني منها هو التّالي: سرٌّ ما يربط بين دقائق الطّبيعة والكون والحياة وإن بدت لنا متنافرة متناقضة من الوهلة الأولى. وهذا السّر ينتقل بشكل أو آخر الى الانسان ولا ينحصر فقط على بعده المادي، بل يتجاوزه الى تلك الشطآن التي تقع وراء ضفافه. وأحد تلك الشطآن: شاطئ الابداع، ولو دقّقنا النّظر فإنّ هذا السّاحر الكبير واللّغز المحيرّ -وأعني به الابداع-يخضع على نحو ما إلى تلك القوانين. من ذلك أنّ هذا الكون الشاسع الثّري المدهش وما يحويه من عجائب الأحجام والأشكال والألوان والرّوائح والطُّعوم وما لا يقع تحت حصر، انطلق من نقطة صغيرة جدّا كما تقول نظريّة الانفجار العظيم. كل تلك الاسرار والعجائب تكمن في نقطة قد لا تقوى العين على رؤيتها. أليس هذا مدهشا وعجيبا؟ إنّنا بوعيٍ او من دون وعي نعيد تشكيل كوننا الابداعي على مثال الكون الذي ولدنا فيه. وقد يتوهّم بعضنا أنّه خالف المألوف مطلقا وخلق خلقا على غير مثال سابق، وهو في حقيقته لم يخرج عن دائرة الخلق الأولى، بل أثبت من حيث أراد النّفي أنّه من تجلّيات قوّة أكبر منه سرّبت إليه شيئا من روحها فكان تجلّيا من تجلّياتها. إذن هذا هو الأصل والسّر الأول الذي يجعل خلق النّقطة القابلة للانفجار والذّهاب في كل اتجاه هي أرقي درجةٍ في سلّم الابداع… أليس هذا دليلا آخر على أنّ القصّة القصيرة جدّا من أصعب الفنون على الاطلاق، باعتبارها النّقطة التي ينبغي أن تحمل في صميمها السّماوات والأرض وما بينهما. ولا يفوتني قبل أن انهي الإجابة عن هذا السّؤال الشيّق أن أنبّه بأنّ الحركة التي أشار اليها “ماتيو دييس”. تخصّ قارئ القصّة القصيرة جدّا دون سواه ولا يمكن تعميمها كقاعدة عامّة. ذلك أنّ الحركة التي يقوم بها المبدع الوامض هي حركة عكسيّة تماما… ينطلق من الكبير المتشظّي إلى الصّغير اللّامتناهي. عالم في نقطة، وبحر في قدح!
هل من نميمة بيضاء وباقتضاب عن نصّك الرّوائي الأخير غوانتانامو؟
مناخ الرواية عموما يدور بين الاهداء والتصدير اللّذين جاءا فيهما: “إلى من ناوشتهم سياط العذاب ظلما. إلى كل إنسان حرّ.” أمّا التّصدير فلشيخ المناضلين نيلسون منديلا: “ليس حُرًّا من يُهان أمامه انسان ولا يشعر بالإهانة.” ولقارئ الحوار أن يربط ذلك بالعنوان ويترك خياله يرحل الى هناك.
كلمة أخيرة سي حسن.
أجدّد لك شكري المبدع الكبير عبد الله المتّقي. كان الحوار معك ممتعا للغاية. أفسحت لي المجال كي أتنفّس برئة جديدة. ما لا يستطيع المبدع قوله في نصوصه باعتباره محكوما بقوانينها، يقوله في الحوار بلا مواربة، بعيدا عن مساحيق الفنّ ومراوغاته. أسئلتك كانت ذكيّة جدّا ودقيقة. إنّها لم تخرج عن قوانين الأدب الوامض. كلمات موجزة تخفي وراءها كثيرا من المعنى. أحسن الله اليك.