جليل ابراهم المندلاوي
قد يكون العنوان الذي اخترناه لبحثنا هذا غريبا نوعا ما مقارنة بالتطور والتقدم الهائل الذي تحرزه البشرية وخصوصا في عصرنا الراهن والذي يشهد انجازات علمية رفيعة استطاع الانسان تحقيقها عبر أشواط طويلة قطعها في التأمل والتجربة حتى توصل الى ماتوصل اليه.. مما يعني ان الانجازات العلمية انما هي نتاج متواصل لنضوج تدريجي في مستوى الفكر التأملي للانسان والذي نعني به مجموعة المعلومات التي يتوصل اليها الانسان عن الكون الذي يعيش فيه ومايزخر به من الوان الوجود وماتسيره من قوانين عبر تأملاته الذهنية واراؤه النظرية وتجاربه التطبيقية، أي “ادراكه لما هو واقع وكائن” كأكتشافه لقانون الجاذبية الارضية، والذرة، وأساليب الحصول على الطاقة، وعلاج الكثير من الامراض، وتربية وتدجين الحيوانات، والزراعة، والكومبيونر، ووسائل الاتصال وغيرها من الاكتشافات في مجال الفيزياء والكيمياء والطب والاحياء وما الى ذلك من علوم وآراء تدور حول تحديد طبيعة الكون.
الا ان “عنوان بحثنا” حتما لن يكون مبالغا فيه اذا ما أجرينا مقارنة منطقية ومعقولة بين التطور الهائل والمستمر في مجال الفكر التأملي من جهة، وبين التخلف المريع “ان صح التعبير” في مجال الفكر العملي للانسان من جهة أخرى، والذي نقصد به مجموعة الآراء العملية التي يتوصل اليها الانسان في مجال السلوك والتصرفات السليمة التي ينبغي ان يتبعها الفرد او المجموع في مجمل التعاملات والمجالات السياسية والاقتصادية وحتى الشخصية لترتقي الحضارة الانسانية الى مستوى متوازن بين التطور العلمي وبين السلوك الانساني، وكمثال على الفكر العملي للانسان رأي المجتمع الرأسمالي في العلاقة التي ينبغي ان تقوم بين العامل وصاحب المال، ورأي المجتمع الاشتراكي في رفض هذه العلاقة..، او السلوك الذي يتبعه الزوجان، او النهج السياسي الذي يجب على الحكومة اتباعه، فالفكر العملي اذا هو “ادراكات لما ينبغي ان يكون وماينبغي ان لايكون”، ولابد ان نوضح هنا ان التخلف المريع “الذي نقصده” انما هو في مجال التطبيق بالدرجة الاساس، فلربما استطاع الانسان تطوير افكاره العملية الى حد ما بالاستفادة “النظرية” من التجارب التي خاضتها البشرية على مر قرون طويلة، الا ان هذه الفائدة لم ترقى الى مستوى تطبيق الافكار العملية الناضجة وهذا مايمكن ان نستنتجه اذا ما أطلعنا على مجموعة معينة من التقارير والاحصائيات الدورية التي تصدرها منظمات دولية متخصصة في مجالات حياتية مختلفة حيث توضح لنا الصورة “المريعة” التي تكاد تطغى بملامحها على أوجه مختلفة من الحياة الانسانية وفي انحاء واسعة من العالم اذ ان هذه التقارير والاحصائيات تشتمل على معدلات مرتفعة في نسب الجهل والتخلف والمرض والجوع والى ماشابه ذلك من الكوارث الانسانية والتي نلاحظ ايضا انها في ارتفاع تدريجي ومتباين من منطقة الى أخرى.
مما يشير بوضوح الى ان معدل التطور العلمي “نتاج الفكر التأملي” في تناسب طردي يرتفع مع ارتفاع معدل المشاكل والكوارث التي تعاني منها البشرية والتي من المفروض ان يعالجها الانسان عبر افكاره وارائه العلمية بالاستفادة من الامكانيات الهائلة التي يوفرها الارتفاع التدريجي في معدل التطور والتقدم العلمي.. الا ان مايحدث يجعلنا نجزم بأن هذه الحالة لاتخضع الى مجال القياس، فالتطور العلمي والفكري لم يغن الملايين من هذه البشرية “خصوصا في افريقيا واجزاء من اسيا” ولم يدفع عنهم فاقة الجوع والامراض الخطيرة التي تفتك بأعداد كبيرة منهم كل يوم بل وكل ساعة ودقيقة، وهذه الكارثة الانسانية انما هي على سبيل المثال لا الحصر لتأكيد ماذهبنا اليه من حيث انها لم تكن وليدة عصرنا الراهن، بل نشأت وتفاقمت منذ عهود بعيدة حتى ان الفترة الزمنية الطويلة من عمر الكارثة لم تكن لتكفي لايجاد حلول ناجعة للتخفيف منها “على اضعف تقدير” ونكاد نجزم ان غزو الانسان للفضاء واكتشافه للكواكب والنجوم البعيدة عملية اسهل بعشرات المرات من ايجاد حل نسبي “واحد” لمعالجة هذه الكارثة الانسانية هذا فضلا عن ان التقدم والتطور الانساني لم يقدم حلولا عملية ناجعة للتخفيف من حدة البطالة وتدهور الاوضاع الاقتصادية او معالجة المشاكل الاجتماعية المختلفة والعديدة التي يعاني منها الافراد والمجتمعات بصورة عامة والتي تنتشر بصورة كبيرة في دول كثيرة، ليست في البلدان التي يطلق عليها بالعالم الثالث او الدول النامية فحسب، بل تعدت حدود الدول المتقدمة ايضا حتى اضحت مستعصية بالشكل الذي يزيد من حدتها وآثارها السلبية… وهذا يمكن ان يقودنا الى نتيجة مهمة هي ان العقل البشري رغم ابداعاته العلمية والفكرية الا انه لم يستفد عمليا منها، ولربما يرجع السبب في ذلك الى سوء تطبيق النظريات ومعالجة الافكار والاراء “كما اشرنا آنفا” الا ان هذا لايعني ان نتمسك بهذا الرأي لاثبات صحة النظريات والاراء بصورة مطلقة وبالتالي اثبات ان العقل البشري توصل الى ادراك كل ماينبغي ان يكون وماينبغي ان لايكون، ولو افترضنا انه استطاع التوصل الى هذه الادراكات بصورة كاملة الا انه حتما لم يستطع التوصل الى عمل كل ماينبغي ان يكون والابتعاد عما ينبغي ان لايكون، فمن المؤكد ان هناك عوامل واسباب اخرى تقف حائلا وعائقا بوجه أية محاولة “أو محاولات” للتخفيف من حدة المشاكل والكوارث الانسانية وبالتالي اجهاضها وهو ماينبغي ان يكون، ومن بين هذه العوامل ولربما يكون اهمها عامل الصراعات الاقليمية والدولية الذي له الأثر الواضح في نشوء المشاكل والكوارث التي تعاني منها الانسانية وتطورها تدريجيا لما لهذا العامل من تأثيرات قوية على تحديد مستوى الاستقرار في هذه المنطقة او تلك من العالم، فمن المعلوم ان نسبة الاستقرار في منطقة معينة يحدد مستوى ابداع العقل البشري وبروزه وظهور آثاره الايجابية على تلك المنطقة لبناء مجتمع متطور نسبيا وقادر على ارساء اسس متينة للفكر النموذجي العملي وبالتالي تجاوزه لمسببات الكوارث والمشاكل التي اشرنا اليها.
وهنا يبرز لنا السؤال التالي، وهو لماذا لم يستطع العقل البشري بكل ابداعاته العلمية والفكرية من ترسيخ اسس وعوامل للاستقرار ومن ثم صياغة واقع يتناسب مع تلك الابداعات..؟؟ ، او بصورة اخرى لماذا لم يستطع هذا العقل “رغم نضوجه النسبي” من حل مشاكله المتفاقمة مع الزمن..؟؟
وقبل محاولة ايجاد أجوبة مناسبة على هذا التساؤل او غيره، هل يمكن ان نقول بعد هذا انها مبالغة اذا ماجزمنا بوجود محاولات ترقى الى مستوى المؤامرة ولربما تكون على نطاق دولي واسع تهدف الى تقويض العقل البشري وتوجيهه وابداعاته بالصورة التي لاتخدم البشرية وبما يتناسب مع مصالح ورغبات فئات ومجموعات محدودة تعمل على قرع اجراس العداء ضد البشرية وضد الحياة الانسانية وتحت استار الظلام لتعمل في خفية وصمت وحذر كي تكون بعيدة عن أية مواجهة محتملة او محاولة قد تجهض مخططاتها الدنيئة وتحطم اهدافها الضيقة، والا كيف يمكن ان نفسر ان هناك انسانا عاقلا يسير بخطاه نحو نار تتلظى وهو يدرك تماما انه اذا ما وطأها ستحرقه من دون شك، الا ان يكون هناك مؤثر قوي جدا يسيطر على ادراكاته بل ويوجهه ليحث خطاه نحو النار مستهينا بعقله وفكره وشعوره وادراكه، ومحاولا بشتى الوسائل حبسها للأبد بين جدران الجسد بعد السيطرة عليها تماما، وهذا ما أضحت عليه العقول البشرية التي ترى مايحل بالعالم من الكوارث والمصير الذي يمضي نحوه دون ان تحرك ساكنا لمعالجتها على الرغم من ان مفاتيح الحلول وأطواق النجاة بين يديها، ولانقول هنا بأن هناك قوى خارقة فوق نطاق البشرية أو جاءت من عالم آخر تحاول السيطرة على عالمنا هذا، ولكننا نجزم بأن الاصابع الخفية انما هي موجودة على الارض وتتنفس من نفس الهواء الذي نستنشقه، فهي من نفس عنصر الجنس البشري، الا انها تختلف في مستوى انسانيتها اذ سيطرت على عقولها غريزة حب الذات وشهوة السلطة، انها مؤامرة الانسان الذي نزع انسانيته ضد اخيه الانسان، الصراع بين قوى الخير والشر من نفس العنصر من اجل السيطرة على العالم وجعل مجاميع الانسان على هذه الارض كقطعان بشرية ليس لها الحق سوى ان تتكاثر بنظام وقانون محدد لتزيد من اعدادها واستمراريتها في الوجود خدمة لمصالح واغراض قارعي اجراس الظلام الذين يتصورون ان لهم الحق دون غيرهم في ان يصبحوا اسيادا على هذه “القطعان البشرية”، يسيرونها كيفما يرغبون ومتى مايشاؤون وكلما يريدون.
– فمن هم أطراف المؤامرة؟؟..، ومن يقف خلف التخطيط المنظم لصياغة أسس عملية تقويض العقل البشري؟؟
– كيف وبأي الوسائل والطرق يتم تقويض العقل البشري..؟؟
– اي الفئات “او الشعوب” المرشحة للقيام بدور القطعان البشرية..؟؟
– ماهي نسب نجاح المؤامرة..؟؟
– الى أي مدى يراد الوصول بهذه المؤامرة..؟؟
– ماهي الغايات والاهداف الرئيسة التي تكمن وراء هذه المؤامرة..؟؟
واسئلة اخرى كثيرة ليس فقط انها تستحق الاجابة عنها.. بل يجب البحث عن اجابات شافية لها لايجاد حلقة الوصل المفقودة من سلسلة التطور الطردي للتناسب بين التقدم العلمي الهائل للبشرية وبين تفاقم مشاكلها وازدياد معاناتها..
اجابات يتطلب البحث عنها واثباتها بصورة منطقية مقبولة مقرونة بأدلة وبراهين واضحة لا لبس فيها ولاتحتمل أي شك لترقى الى مستوى الحقيقة ولتكون جديرة بافصاح عنها ومعرفتها حيث ان الحقائق لابد من كشفها دائما