من قصائد الشاعر شينوار ابراهيم ( أَقمارُ الحبِ ) وهي قصيدة فيها لغة خطابية شفافة لأنوثة متكاملة ، بكل سماتها وإيماءاتها ، انها حراك وبوح الذات الذكورية نحو الذات الانثوية ، ومحاولة بثّ كل الطاقات الانجذابية ، لكنه بوح يكاد يخلو من تعريض الجسد الى اذلاله والاستهانة به ، بل نرى فيه ابجدية شاعر يغصّ بمفرداته وتراكيبه خجلاً منها ، فهي تحمل ما يريحه من توارد الخواطر وتقارب الافكار ، انه يدوّن فرحه ومسراته الغامرة ، وهو يتنقل بين تلك الواحة بحرية ، دون الافراط فيها ، الذي استوقفني هو ذا المقطع من هذه القصيدة التي يقول فيها :
” وردة
تعزِف
لرجفة جسدك
عرقاً ”
( رجفة الجسد ) حركة ايمائية ، تجذب الناظر / القارئ الى ما فيها من دلالة ايحائية فاعلة ، عبر لغة ( الجسد ) بوصفه معنى لحركة تنطلق من مكونات الجسد ذاته ، يقول د . رحمن غركان في ( الجسد بوصفه .. معنى خياليا ) : (حين نقرأ فاعلية الخيال في إبداع المعنى الفني عبر لغة الجسد في أسلوب فني هو الحلقة الأحدث في هذه اللغة ؛ نجد التمثيل الإيمائي أو البانتومايم،(pantomime)وهو:الكلام الصادر عن التكوين الصامت لحركات الجسد ، تلك التي تنطلق حركية مكونات الجسد فيها ببلاغة فنية رفيعة مستفيدة من فضاء المكان وأبعاده ، مستخدماً في نطق الجسد كل عضلة أو عضو أو بروز جسدي للإفصاح عن القصد ، ينحت جسده مشكلاً منه كلاماً إيمائياً تمثيلياً صامتاً ناطقاً في آن معاً ؛ ليكون كل تشكّل في كل لحظة تمثيلية بمثابة جملة بليغة ذات ثراء خاص استدعاها خيال الفنان موجهاً بين تبدياتها المعاني الفنية المؤثرة ، وفي هذا النمط من الكلام تتلاشى اللغات بلغة الجسد الايمائية الواحد ، فالجسد ليس حجراً ليصمت ، انه روح ولهذا يتكلم بتمثيله الصامت ) .
فالجسد لم يشكل لدى ( شينوار ابراهيم ) أزمة عاطفة ، او ثورة تقضّ مضجعه بالهوس والجنون والبحث عن المغامرات الصبيانية الطائشة ، ولم نرَ فيها اي تمرد للذات لتعلن عن عقدها ، او الخروج عنها والانغماس بذكر تفاصيل الجسد وإغراءاته ومفاتنه ، لا لم نجد ذلك ، كونه يرى ان لهذا الجسد كياناً مقدساً تضرب له المهابة والثناء والوفاء ، كونه الباعث الفاعل في تحريك مجساته العاطفية ، لم تكن لديه اية معاناة او ضغوطات نفسية او تأزمات ذاتية تتصاعد فيها تراكمات الغلواء ، مثلما نجدها لدى الشاعر ” نزار قباني ” الذي عرف بالإفراط في وصف الجسد والتشهير بالمفاتن رمزاً ، للأنوثة المطلقة المتحررة التي لا تخضع لقيود العادات والتقاليد والأعراف ، كما يصف ذلك الشاعر نزار قباني : (الحب الذي كتبت عنه ،هو حبي أنا ، ومعاناتي أنا ، والأبجدية التي اعتمدتها في الكتابة عن هذا الحب هي أبجديتي أنا. إنني أول شاعر دخل إلى غرف الحب الضيقة ، ورسم أشياء العشق المعاصرة بدقة عدسة تصوير. وأنا أول من أدخل تفاصيل العشق اليومية في الشعر (الجرائد ، الكتب ، الستائر ، منافض الرماد ، أدوات الزينة المعاصرة ، المقهى ، المرقص ، ثياب الاستحمام ، العطور ، الأزياء…الخ) ومن هنا أعترض على كلمة ذاكرة ، لأنني ، على حد تصوري ، كنت أحاول أن أسجل علاقات الحب في عصري ، بطريقتي الخاصة ، بحيث اتفق أكثر من ناقد على القول : إن شعري هو وثيقة اجتماعية للحياة العاطفية بين الجنسين خلال الثلاثين سنة الأخيرة ) .
فالجسد لدى شاعرنا شينوار ابراهيم خارطة من :
” مدينة العشق
مملكة أوركيش …
بوابات بابل
تستقبلني ”
وقوله أيضاً : –
يغمر نظراتي جمال
لوحات …
ترسمها ابتسامة
عشقنا
غافيا ً.
في الوقت الذي اعتبر البعض أن اللغة المحكية فقدت معناها في ظل اللغة الجسدية ، اعتبر البعض الآخر أنّها على العكس أضافت طبقة جديدة من تراكم المعنى. انها تأملات في ذلك الرمز الانثوي ، والتناغم معه بلا افراط ، بل محاولة تلميع تلكم المدن والمملكات والبوابات بحرارة الاستقبال او اطلاق نظام تبادل النظرات بالابتسامات التي هي عبارة عن مرسلات ذهنية ، تكشف لنا عن مديات مختلفة من التحرك الظاهري / الخارجي .. ومحاكاة تعبر عن تخاطر دلالي ينساق منهما معاً ، اذن / الجسد لغة تضاف الى اللغة المحكية لتعطي معها ، وحدة اتساقية متبادلة الخطوط .. لأنهما ممارسات علائقية / ديناميكية نحتاج اليها كلما ضجّت ذاكرتنا بالانشغالات الايحائية .
حامد عبدالحسين حميدي / ناقد عراقي