مادونا عسكر/ لبنان
مأساة الشّعوب تجد جذروها في ادّعاء المجموعات بامتلاك الحقيقة، بغضّ النّظر عمّا تمثّل الحقيقة لكلّ جماعة. وهي مأساة حقّة، لأنّه بهذا الادّعاء تسمح كلّ جماعة لنفسها بالسّيطرة على الآخر والتّحكّم فيه. وتؤكّد شتّى الأحداث التّاريخيّة أنّ كلّ من أطاحوا بالشّعوب واستعبدوهم وانتهكوا كرامتهم الإنسانيّة، كانوا ممّن اعتبروا أنفسهم يملكون الحقيقة. بالمقابل من لامسوا الحقيقة وهم قلّة، تعمّقوا أكثر في تشريح النّفس الإنسانيّة وكينونتها وثابروا على إيصال قناعاتهم بأسلوب حضاريّ.
– ما هي الحقيقة؟
سؤال تصعب الإجابة عليه ببضع كلمات، ويلتبس المعنى الجاد للحقيقة، إذا ما حوّلناه إلى معادلة حسابيّة تنال نتيجتها بمفاهيم ضيّقة. فالحقيقة تفترض بحثاً واجتهاداً فكريّاً ونفسيّاً ووجدانيّاً حتّى تبزغ أولى خيوطها النّيّرة، وتتسرّب إلى أعماق الإنسان. ما يستدعي مسيرة حياة يحياها الإنسان بين القراءات والتّأمّلات وخبراته الذّاتية وخبرات الآخر. كما أنّه لو بلغ جزءاً يسيراً منها، فهو لن يتبيّن إلّا تمتمات، لأنّ الحقيقة سرّ يدخله الإنسان ليكتشفه أكثر فأكثر، وليس ليعتبره المحطّة الأخيرة. ولا نعني بكلمة ” سرّ”، الغموض – Mystère – أو حائطاً مسدوداً لا يمكن اجتيازه، وإنّما نعني به جوهراً مكتفياً بذاته، لا يمكن لأحد أن يمتلكه أو أن يضيف عليه أو يبدّل جوهره.
يعتبر البعض أنّ الحقيقة هي الله، أو الدّين، أو العقل، أو الموت… بيد أن هذه التّعاريف تبقى نسبيّة من شخص إلى آخر، كما أنّها تخضع للشّكّ والتّحليل والبحث حتّى يتبيّن يقينها. ولا يجوز أن نعتبرها حقيقة لمجرّد أنّها موروث حملناه أو تربّينا عليه، كما أنّ هذه الحقيقة لا تكتسب هيبتها ما لم تكن اكتشافاً شخصيّاً استلزم الفحص والتأكيد. فكلّ نظريّة أو فكرة تخضع للشّكّ، أيّ تخضع للتّفكير والبحث والاختبار، وإلّا أصبحت مجرّد أفكار وتقاليد موروثة يسهل التّخلّي عنها بمجرّد الاقتناع بنظريّة أخرى.
كلّ شيء يمتثل للشّكّ، وحرّيّة التّفكير ورصانة العقل وانفتاح القلب. ويجب ألّا نخاف من الشّك لبلوغ الحقيقة. فالشّك لا يعني الرّفض المطلق، وإنّما الشّك يعني عدم قبول الأمور تلقائيّاً أو اعتباطيّاً دون احترام العقل وقدراته. وخلال هذا البحث العقلي والقلبي، تنفتح أمام الباحث عن الحقيقة أبواب المعرفة. فيستثمر قدراته العقليّة وتأمّلاته الشّخصيّة الخارجة عنه، والأخرى الكامنة في عمق ذاته، فيتلمّس شيئاً فشيئاً جزءاً من الحقيقة. ويبدأ تدريجيّاً الدّخول في سرّها، ولا يبلغها كاملة بل ما يبرح يدور في فلكها ليكتشفها. لذا، فالحقيقة لا اسم لها، إنّها الجوهر الّذي يحوي كلّ الحقائق المرافقة لحياة الإنسان، وهي تسمو فوق كلّ الأسماء وكلّ الحقائق.
– في أخلاقيّات البحث عن الحقيقة:
البحث عن الحقيقة يتطلّب من الإنسان الالتزام باحترام فكر الآخر وبحثه وجهوده، بغضّ النّظر عن صوابيّة أو ضلال بحثه أو قناعته أو النّتائج الّتي تمّ التّوصّل إليها. فللحقيقة طرق عديدة، من خلالها يستدلّ الإنسان على نورها. من الصّعب أن يلتقي الجميع على نفس الطّريق، لأنّ الاختبار الشّخصي محدود بالفرد، ولا يستوي بين الأشخاص. ولعلّ أجمل ما في البحث عن الحقيقة تنوّع وسائلها وسبلها، فتتشكلّ كلوحة فسيفساء، كلّ حبّة فيها تختلف عن الأخرى. إنّ وحدة الحقيقة تكمن في تعدّد السّبل الموصلة إليها، وتتجلّى في حضارة التّعدّد الّتي تصبّ في جوهرها. كلّ فكر باحث عن الحقيقة يتضافر وفكر باحث آخر حتّى يصلا معاً إليها، فيزداد الإنسان غنىً وخبرة، بل وتنفتح أمامه سبل أخرى ربما تاهت عنه، تصوّب مساره وتوفّر له مفهوماً متجدّداً لمواصلة البحث.
والبحث عن الحقيقة يختلف عن بلوغها، لذا فكلّ باحث لا ينبغي له أن يفرض قناعاته ويعتبر نفسه قادراً على إقناع الآخر بها. وبما أنّ البحث عن الحقيقة اختبار شخصيّ، وجب على الإنسان الاكتفاء بعرض قناعاته والتزامها دون التبجّح بها، ودون أن يمنح الحقّ لنفسه بالتّسلّط على الآخر واعتبار ذاته في منزلة أرفع . ولعلّ ما يرفع من مستوى الباحث عن الحقيقة إلى مستوى الحقيقة التّواضع، سمة العظماء. فالتّواضع يمنح الإنسان القدرة على احترام قدرات وخبرات الآخر، ويسهم في الازدياد من العلم والمعرفة، كما يوضّح له الصّواب من الخطأ.
– لا أحد يملك الحقيقة.
في كلّ مرّة يدّعي شخص أو جماعة أو حزب، امتلاك الحقيقة، فإنّما يؤكّدون بذلك عدم وجودها، أو بمعنى أصح عدم أهمّيتها. فالشّيء الّذي يسهل بلوغه وامتلاكه، يحتاج إلى من يمنحه أهمّية وقيمة. ولعلّهم يقولون ذلك عن جهل أو غير وعيٍ أو بهدف التسلّط على الآخر والتحكّم به. لأنّ من يتلمّس الحقيقة لا يمكنه إلّا أن يحترم الكيان الإنساني ويسعى إلى المحافظة على الكرامة الإنسانيّة. أمّا من يدّعي امتلاك الحقيقة، يفرضها بقوة ويطيح بكلّ القيم الإنسانيّة، ويسمح لنفسه باستعباد كرامة الآخر وانتهاك حقوقه بل وسلب حياته. كأن تفرض جماعة دينيّة مبادئَها العقائديّة، أو كأن يُلزم حزب ما النّاس على الاقتناع بعقيدته الحزبيّة، أو كأن يُقسرَ الإنسان على السّلوك في منهج فكريّ محدّد… من يُلزم النّاس بحقيقة ملتبسة يدّعي بلوغها، يُدخل الخاضعين له دائرة الاستعباد، ويغرقهم في مستنقعات الجهل والعمى الفكري والروحي، ويؤسّس لمجموعة من النّاس تنتهج مبدأ الظّلم والعبث بكرامة الآخر.
لا أحد يملك الحقيقة، لأنّ الحقيقة لا تخضع لأحد، ولا ييحتكرها الفكر الإنساني، بل هي نور يسطع للجميع، وتنتظر انفتاح العقل والقلب حتّى تتسرّب إلى الدّاخل الإنساني. جلّ ما يصل إليه الإنسان جزء من الحقيقة، ولا يرى منها إلّا أنواراً خافتة تدعوه دوماً لمزبد من الاكتشاف. وكلّما اقترب منها، غاص في العمق أكثر فأكثر.
الفرق بين الباحث عن الحقيقة وبين من تلمّسها، هو أنّ الأوّل يستبيح الحياة الإنسانيّة ليفرض نفسه، وأمّا الثّاني فيبذل ذاته من أجلها غير خاضع لأيّ ضغط فكريّ أو نفسيّ، وإنّما لأنّه عاينها بالفعل.