—————————————–
د. حسين سرمك حسن
(( العراق يستيقظ من سبات الشرق إلى يقظة الغرب .. فإن الدكتور علي الوردي يمثل في بغداد من المباديء والأهداف والأساليب ما يمثله عندنا “خالد محمد خالد” ، كلاهما يحمل على العادات الذهنية والعاطفية القديمة التي أصبحت بالية ويحاول أن يوضّح زيفها وأنها تعارض الحياة العصرية ))
( سلامة موسى )
( جريدة الأخبار القاهرية في 19 أيلول 1954 )
إبن خلدون من أعظم المفكرين في العالم :
————————————–
يقول الوردي – في معرض المقارنة بين الإكتشاف المتأخر لأفكار أبي حيان التوحيدي وأفكار ابن خلدون – :
(( يشبه أبو حيان في هذا ابن خلدون . فقد كتب ابن خلدون مقدّمته الكبرى في علم الاجتماع ولكن المؤرخين لم يجدوا فيها شيئا يستحق الإعجاب . ونسى العرب ابن خلدون حتى جاء المستشرقون أخيرا فاكتشفوه وانثال العرب عليه من بعد ذلك يقرأون مقدّمته ويعجبون بها )).
ويرى الوردي أن ابن خلدون من أعظم المفكرين في العالم ، وهو أول من درس المجتمع البشري بطريقة واقعية حيث خرج بها عن الطريقة الوعظية التي كانت مسيطرة على الأذهان في القرون القديمة والوسطى . كان ابن خلدون ثائرا على المنطق القديم بوجه عام والمنطق الأرسطي بوجه خاص . ويخطيء من يعتقد أن ابن خلدون كان تلميذا للفلاسفة القدامى كابن رشد مثلا . ونستطيع أن نتبين أهمية الطفرة التي قام بها ابن خلدون في تاريخ الفكر الاجتماعي من خلال قيامه بأول محاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها والدخول بها في معترك الحياة الواقعية . وقد استقى الوردي الكثير من أفكاره من اطروحات قدمها ابن خلدون في (مقدمته) ، من أهمها فرضية صراع الحضارة والبداوة ، كما أن هجمة الوردي على المنهج الوعظي التي وصلت ذروتها في كتابيه : “وعّاظ السلاطين” و “مهزلة العقل البشري” ، نجد جذورها في ما طرحه ابن خلدون في مقدمته من أن الذين بحثوا في القضايا الاجتماعية قبله كانوا يتبعون منهج الوعظ أو الخطابة أي أنهم كانوا يحاولون الإتيان بالأقوال المقنعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه ، أما هو فليس همّه أن يعظ الجمهور أو يدعوهم إلى الطريق القويم والأخلاق المحمودة ، بل كان يقصد أن يبحث في طبيعة الحياة الاجتماعية لكي يكتشف القوانين التي تسيطر عليها سواء في ذلك أكانت تلك القوانين ذميمة أم حميدة .
بين ابن خلدون ومكيافيلي :
————————–
ولعلّ من الإنتباهات الرائدة للوردي في هذا المجال ، هي المقارنة التي قام بها بين ابن خلدون ونيقولا مكيافيلي صاحب كتاب “الأمير” الشهير ورافع شعار “الغاية تبرّر الواسطة” الذي جاء بعد ابن خلدون بقرن من الزمان . يقول الوردي :
(( من المناسب أن نقف قليلا لنرى إلى أيّ حد كان التشابه بين آراء مكيافيلي وآراء ابن خلدون ، وهل وصل مكيافيلي من حيث الإبداع وأصالة المنطق إلى القمّة التي وصل إليها سلفه العربي . لقد أراد مكيافيلي أن يقدّم مجموعة من النصائح العملية للأمير بغية الانتفاع بها في سياسة رعاياه . إنه بعبارة أخرى لم يقصد أن يؤسّس عِلْماً في الاجتماع له أصوله وقواعده مثل ابن خلدون . ونحن إذ نقدّر ثورة مكيافيلي ، لا نستطيع أن نقول إنه وصل بها إلى مرتبة ابن خلدون . إنهما يتشابهان في كونهما استمدا مادة كتابتهما من الخبرة الاجتماعية في الغالب ، ولكنهما يختلفان من ناحية أخرى ، فابن خلدون لم يقدّم خبرته الاجتماعية على شكل نصائح عملية كما فعل مكيافيلي ، بل هو قدّمها بعد أن ربط أجزاءها المتفرقة برباط منطقي متكامل تقريبا ، وجعل منها فلسفة عامة تقوم على أساس جديد . ويصح أن نقول إذن إنه كان في ذلك خبيرا اجتماعيا وفيلسوفا في آن واحد . أما مكيافيلي فأقصى ما يمكن أن نصفه به هو أنه كان خبيرا اجتماعيا فقط )) (203) .
ثم يقارن الوردي بين مصيري الرجلين فيرى أن الناس غضبوا على مكيافيلي ورفضوا كتاباته لأنهم اعتبروها خارجة على الأخلاق والأديان وداعية للمكر والخداع حتى صار مكيافيلي في أذهان الناس مرادفا للشيطان نفسه . أما ابن خلدون فقد أهمله الناس ونسوه في القرون التالية . ولكن الوردي يرى أيضاً :
(( أن آراء ابن خلدون كانت أشد انحرافا عن شرعة الأخلاق والأديان من آراء زميله الإيطالي . ولكن الناس لم ينتبهوا إليها . فقد امتاز ابن خلدون بإسلوبه الدبلوماسي الذي يغطّي الآراء المنحرفة بغطاء برّاق . فهو يُكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه ، ويُكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل : “الله أعلم ” و “هو الهادي للصواب ” و ” عليه التوفيق ” وما أشبه . وظنّ الناس أنه كغيره من الفقهاء والمؤرخين سائر على سنة الله ورسوله ، ولو أنهم أدركوا مقاصده الحقيقية بوضوح لربما شنّوا عليه حملة شعواء لم يعهد مكيافيلي لها مثيلا )) (204) .
جرأة الوردي وعلميّته في مناقشة آراء الباحثين السابقين في الطفرة الخلدونية :
—————————————————————
إن مهمة إعادة اكتشاف ابن خلدون التي قام بها الوردي بشكل مُحكم تنطوي على جانب مهم يعكس جرأته ومقدار ثقته بنفسه حيث ناقش آراء خطيرة لشخصيات ثقافية مهمة في الوطن العربي والعالم آنذاك ، وأثبت خطأها وهو في بداية مسيرته العلمية مقارنة بتلك الشخصيات الثقافية العربية والعالمية التي أسّست وجودها المميز عبر سنين طويلة . يتجسّد ذلك أولا في المقارنة التي عقدها بين ابن خلدون ومكيافيللي والتي ذكرناها آنفا . ولنتابع ذلك .
يردّ الوردي أولا على رأي “ساطع الحصري” ( ومعه الباحث الأمريكي “دون مارتندل” ) و “طه حسين” ، في محور نظرية ابن خلدون فيعارض الرأيين ويقول : ( إني أخالف رأي الحصري ورأي طه حسين ، ففي رأيي أن نظرية ابن خلدون تدور حول موضوع أوسع نطاقا وأكثر شمولا من موضوع العصبية ( الذي يقول به الحصري ) أو الدولة ( الذي يقول به طه حسين ) ، إنها حسبما أظن تدور حول البداوة والحضارة وما يقع بينهما من صراع . ويمكن القول أن لها جانبين ؛ “سكوني – static ” ، والآخر “حركي – dynamic ” . ومما يلفت النظر أن آباء علم الاجتماع الحديث وهم : كونت الفرنسي ، وسبنسر الإنكليزي ، ووارد الأمريكي ، اهتموا بتقسيم دراساتهم الاجتماعية إلى جانبين : حركي وسكوني ) . ولعل المداخلة المهمة التي تبرز تفرّد قراءة الوردي الباهرة المتميزة عن قراءات الباحثين وعلماء الاجتماع السابقين ، هي وجهة نظره في تعليل الطفرة الفكرية التي حققها ابن خلدون ، حيث كان أول مفكّر في العالم ، يخرج من نطاق المنطق “الصوري” القديم ، ويحاول دراسة المجتمع حسب منطق ” مادي ” جديد . وقبل عرض تبريره للطفرة الخلدونية كما يسمّيها ، يُعارض أولا ست وجهات نظر طُرحت قبله هي :
1- وجهة نظر (طه حسين) الذي يرى أن نظرية ابن خلدون جاءت في زمن ظهرت فيه الموسوعات الضخمة التي جُمعت فيها كل المعلومات التي كانت معروفة لدى البشر آنذاك .
2- تعليل الأستاذ ( ناثانيل شمدت) في كتابه عن ابن خلدون الذي يعلّل طفرة ابن خلدون بتنوع التجارب الاجتماعية التي مرّ بها ابن خلدون في حياته الصاخبة التي قادته إلى الأعماق حيث تكشف الروح عن معنى الحياة .
3- تعليل المؤرخ الفرنسي (غوتيه) في كتابه ( ماضي أفريقيا الشمالية ) الذي يرى أن ابن خلدون استلهم نظريته المبدعة من نفحة جاءت إليه عبر الأندلس من أوربا ، وهي نظرية غريبة وغير دقيقة تُصادر جهد ابن خلدون .
4- تعليل الأستاذ (إبف لاكوست) في كتابه حول ابن خلدون الذي يرى أن الأخير كان في كتاباته المُعبّر عن مصالح طبقته السياسية وهي الطبقة الإقطاعية ، ولذلك مدح في مقدمته رؤساء القبائل وذمّ التُجار وأصحاب الصنائع .
5- تعليل الدكتور (غاستون بوتول) في كتابه ( ابن خلدون ، فلسفته الإجتماعية ) الذي يعتبر الوردي رأيه من أفضل الآراء التي انطلقت من “اجتماعية المعرفة” ، حيث يرى أن المرحلة التي عاشها ابن خلدون تمثلت في الفوضى العارمة التي دامت عشرين عاما وكان سببها تصارع أقصى البداوة مع أقصى الحضارة . هذه الفوضى والمؤامرات التي شارك فيها ابن خلدون وحين فشل انسحب وانزوى في قلعة صغيرة وأخذ يتأمل أسباب فشله وكيف تقوم الدولة ..إلخ .. وفوق ذلك كان ابن خلدون عبقريا .
6- تعليل ساطع الحصري الذي يرى أن ابن خلدون نشأ في كنف أسرة كانت تتقلب بين رياسة علمية ورياسة سلطانية فانتجت فيه نزعتين قويتين :حُبّ المنصب والجاه من ناحية ، وحبّ الدرس والعلم من ناحية أخرى ، وقد تضافرتا على تمكينه من كتابة مقدمته .
# رأي الوردي في العوامل الثمانية التي اسهمت في تكوين نظرية ابن خلدون:
—————————————————————-
وقد خالف الوردي وجهات النظر هذه كلها لأنها تقوم على طريقة التعليل بعامل واحد في حين يؤمن هو بنظرية التعليل بالعوامل المتنوعة ، ولذلك يعتقد أن هناك ثمانية عوامل أسهمت في تكوين نظرية ابن خلدون وهي :
1- النزعتان القويتان المتضادتان اللتان أشار إليهما الحصري وهما : حب المنصب والجاه ، وحب الدرس والعلم .
2- تأريخه العائلي الذي يتقلب بين هاتين النزعتين .
3- تذبذبه بين كونه فقيها مسلما من ناحية وكونه رجل دولة خدمت الدولة الأموية .
4- تأثره بالعلماء والأدباء الذين سبقوه والذي مثلوا أيضا التصارع بين النزعتين السابقتين .
5- طبيعة المجتمع الذي عاش فيه وهو المجتمع المغربي ، والصراع الطائفي الذي كان يشهده والذي يختلف عن الصراع الطائفي في الشرق العربي .
6- اجتياح القبائل العربية لبلاد المغرب من جراء انقلاب عامل تونس على الخلافة الفاطمية ، وهذا الاجتياح أحدث تغييرات اقتصادية وسياسية وحضارية في المجتمع المغربي ، هذه القبائل التي خرّبت الحياة في المغرب لكنها استضافت ابن خلدون وعائلته أربع سنوات فكتب مقدمته وأغلبه قدح لأفعالها .
7- نكبة الطاعون الجارف الذي اكتسح مئات الألوف من سكان المغرب وأدى إلى تفوّق البدو على الحضر في العدد والقوة ، وبذر بذور الفوضى السياسية التي خاض غمارها ابن خلدون وفشل .
8- القرن الثامن في حياة الإسلام الذي عاش فيه ابن خلدون كان من أسوأ القرون التي مر بها الإسلام من الناحية السياسية الأمر الذي زرع نزعة ” التشاؤم الواقعي ” التي ظهرت في مقدمة ابن خلدون ) (205).