د محمد غاني، أكاديمي و باحث مغربي
يعتبر ابن قسي* الملقب بزعيم المريدين في غرب الأندلس علم الحكمة الاشراقية مستوحى من الوحي الالهي لأنبيائه عليهم السلام قصد تغذية الأرواح و تقوية القلوب و إذكاء الذوق و الالهام و ترسيخ الإيمان1.
و يشبه فرسان الحكمة ميدانهم هذا بخوض بحر لجي زاخر و وقوف بمقام أعز حيث ليس الا النور الحق و الكلم و الصدق و السر الذي قام به الأمر و الخلق2.
إن تعليم الحكمة وراثة نبوية بامتياز و لا يتأتى الوصول اليها الا لطالبها بصدق أفرغ صفحته القلبية من كل محتوى لتمتلأ بصنوف حدائق المعرفة الربانية و يرمز أغلب فرسانها الى هذا المعنى بخلع النعلين اقتباسا من قصة موسى عليه السلام عندما أمر بخلعهما تقديسا للحق عز وجل فأكرمه بالخطاب.
و في هذا المعنى ينشد فارس الشعر الصوفي ابن الفارض
آنسْتُ في الحَيّ ناراً
لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلّي
أجِدْ هُدايَ لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ
نارُ المُكَلَّمِ قَبلي
نودِيتُ مِنها جِهاراً
رُدّوا لَياليَ وَصلي
حتى إذا ما تَدَانَى ال
ميقَاتُ في جَمْعِ شملي
صارَتْ جِباليَ دكاً
منْ هَيْبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرٌ خَفيٌ
يَدْريهِ مَنْ كَانَ مِثْلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني
مذ صارَ بَعْضِيَ علّي
و يقرر ابن قسي في نفس السياق أن من كان في مثل هذا المقام ، فعليه أن يستلهم موقف موسى إذ آنس نارا، فذهب ليقتبس نورا “فنودي إني أنا ربك فاخلع نعليك ، إنك بالوادي المقدس طوى” فقد آثر تسمية كتابه خلع النعلين و اقتباس النور من موضع القدمين” تيمنا بمقام موسى و هو في الحضرة الالهية و استلهاما لأحواله عليه السلام 3.
ان الأمر الالهي ” فاخلع نعليك” هو اشارة بليغة لطالب الحق أن يترك كل ماسوى الله لينال المنى حيث هو مأمور بأن يهجر كل ما نهى الله عنه ليتحلى بالفضائل فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فلا تحلي الا بعد التخلي و لاتمتلأ الصفحة بالمعاني الجميلة الا إذا أفرغت من كل الصور القبيحة و هذا عين مراد ابن قسي حيث كتب محقق كتابه الاستاذ محمد الامراني يقول:
“ان الأمر الالهي الموجه لموسى عليه السلام بقوله ” فاخلع نعليك” لهو في نظر ابن قسي دلالة على أن من كان في مثل هذا المقام وجب عليه تجاوز المألوف و كسر قوالب الحياة المبتذلة و تحطيم بداهات و تصورات المعرفة الحسية المعتادة و أن يكون حاله حال موسى عليه السلام لما نودي أن “اخلع نعليك انك بالوادي المقدس ” و سمع الكلام الأقدس. خلع عنه النعلين و رفع وساوس الكيف و الأين و ما زال يخلع و يخلع حتى خلع حجاب الفان و الرين و تدرع قميص وقار الهين و اللين، فانخلع لك وجود في حقه عن بردة ظهره و شق عن كمامة نوره”
فمن طمع في أسرار المكاشفة و و اشتاق لمشاهدة الحضرة الالهية ففي نموذج موسى أبلغ مثال. فمن تشوف لسماع الحق و الكلام الصدق من حيث الحق يظهر له مثل لمع البرق من المقعد الصدق فليخلع دنياه، و ليقدم صدقات بين يدي نجواه و ليعلم أن الله هو البر الرحيم لا تضره المعصيات و لا تنغعه الطاعات”4.
إن روح الدين هو جوهره و ثمرته التي كانت ضالة الأنبياء عبر الزمان و هي توحيد الإله أما الشرائع فكانت دوما قابلة للتحيين ببعثة الرسل ، فإذا كان النبي مبلغا رسالة الرسول الذي كان معاصره كما هو حال هارون مع موسى عليهما السلام أو من كان قبله كما هو حال اسماعيل و اسحق مع ابراهيم عليهم السلام فإن علماء الخشية في الاسلام هم من ورث تعليم الحكمة زمان الرسول الأكرم، لذا ينبغي لكل البشرية أن تتوحد حول روح الأديان الذي هو توحيد الحق سبحانه و أن تبحث عن المشترك في الشرائع في تحيين دائم يتماشى مع روح العضر و مقاصد الدين.
و قد استلهم ابن قسي نفس هذا المعنى الآية اليوسفية حيث يرى فيها رمزا لما أودعه في كتابه من علوم و مكاشفات إذ يرى أن مقامه و قوله مثاله مرتبة منزلة يوسف عليه السلام لذلك وجب على أهل الأديان5 أن لا يكونوا كإخوة يوسف فيظلموا الحكمة و يلقوا بها في غيابات الجب و ألا يكونوا من السيارة فيشترونها بثمن بخس و يكونوا في الحكمة من الزاهدين.
و خير ختام يحضرني حكمة بليغة استلهمت منها عنوان هذا المقال عن الحكمة في نظر ابن قسي فهي في نظره “روائح دار الأنوار و انبعاث حياة و اخضرار نبات و انفتاح كمام نور و جنات” .
*ابن قسي : حسب موسوعة ويكي بيديا فهو أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قَسِيّ (توفي 546 هـ، شلب) متصوف أندلسي، قائد ثورة المريدين، وصاحب كتاب خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين.
بعد موت كبار متصوفة الأندلس ابن برجان وابن العريف وأبي بكر المايورقي في نفس السنة، خلا له الجو، فاجتمع حوله أتباعه المريدين، فتزعمهم كفرقة صوفية وأداة سياسية، استخدمها في تحقيق مطامعه للوصول إلى الحكم. فقاد مريديه مدة طويلة في الثورة، سواء ضد المرابطين، أو ضد الموحدين، حتى بعد استسلام جل ثوار الأندلس للسلطان الموحدي عبد المومن بن علي. وبقيت الحركة قائمة إلى آخر حياة مؤسسها والتي انتهت معها حركة المريدين بالأندلس
1، ابن قسي خلع النعلين تحقيق محمد الامراني الطبعة الاولى 1997 آسفي.
2، انظر نفس لمرجع.
3، نفسه.
4، نفسه ص 160.
5، نفسه، مع الاشارة أن ابن قسي ذكر أهل الكتاب و قد ارتأينا أن نسميهم أهل الأديان لما في ذالك من رقي حضاري يمكن أن يسوق لروح الاسلام الرفيعة فينجذب اليه كل ذي ذوق عال.
عبق من دار الأنوار عند خلع النعلين
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا