محمد حسن الساعدي
لا شك ان الوضع الامني في العراق يخضع للتأثيرات الداخلية والإقليمية وحتى الدولية ، اذ لا ريب ان هناك اتساقاً في التأثير بين الوضع الإقليمي والدولي من جهة وبين الوضع الداخلي من جهة اخرى ، وقد تحاول بعض الأوساط التشويش والفات النظر عن الانتصارات المتحققة في الداخل الى احداث الخارج الساخنة ، الا ان الوضع الامني في الآونة الاخيرة كان لافتاً في تطوراته وشكّل انتقالة سريعة في الأحداث العسكرية الجارية في صلاح الدين والانبار وكذلك الانتصارات المتحققة في جبهة تكريت ، وربما تتجه بوصلة التحرير نحو الموصل في المستقبل القريب ، لان الهدف هو تطهير كامل المناطق التي استحلها الارهاب الداعشي .
اغلب التقارير الغربية تشير الى ان الوضع الامني في العراق مرتبط بعوامل إقليمية وتدخلات خارجية تلعب دوراً رئيسياً في التذبذب الحاصل في هذا الملف ، اضافة الى الأسباب الداخلية والتي تتمثل بالعلاقات السياسية بين عموم الكتل السياسية والتي انعكست بالسلب على الوضع الامني والاجتماعي في البلاد .
الساحة السياسية العراقية اليوم تشهد مستجدات خطيرة في الملف الامني والتي جاءت على خلفية محاربة الارهاب الداعشي والذي تمكن من احتلال ثلاثة محافظات مهمة في البلاد ، وعلى آلاف الأميال المربعة ، ويحاول ان يحكم سيطرته على الملايين من البشر سواءً في العراق او سوريا .
تنظيم داعش الذي يضم حوالي ٣١ الف مقاتل من بينهم ٢٠ الى ٢٥ الف يمثلون الصفوة ونواة التنظيم ومنتمين عقائدياً الى التنظيم ، ولديهم القدرة على التنظيم والتنسيق العالي بين الفصائل الإرهابية جعلهم تنظيماً دولياً ، ناهيك عن الاكتفاء الشبه ذاتي لموارده المالية من خلال سرقة النفط من المناطق التي استولوا عليها او من خلال سرقة المصارف الأهلية والحكومية والابتزاز لقاء مبالغ طائلة او فرض الضرائب على الناس ، كما هو الدعم الإقليمي للتنظيم من ناحية التمويل المالي والتسليح للعمليات العسكرية الإرهابية او العمليات الإرهابية في المدن كافة ، وبحلول عام ٢٠١٤ أصبحت داعش تجني مليوني دولار يومياً مما يجعلها أغنى منظمة ارهابية في العالم ، ولديها القدرة لكسب الأموال من خلال الداعمين لها والابتزاز والخطف لقاء الفدية .
هذه السمات جعلت الوضع الامني في البلاد يعاني المد والجزر ، ومع زيادة في الخروقات الامنية الخطيرة في عموم محافظات البلاد والتي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء ، حتى أصدرت المرجعية الدينية فتواها التاريخية الشهيرة “الجهاد الكفائي ” لتكون بوقاً لإيقاظ النائمين في الحكومة العراقية والتي كانت لحدٍ ما سبباً في تدهور الأوضاع الامنية الخطيرة إبان حكم المالكي حيث عاشت الدولة العراقية اسوء فتراتها ، وذلك من أزمات كبيرة وخطيرة كادت او توقع بالعملية السياسية و المشروع الوطني برمته ، كما ان انهيار المنظومة العسكرية كان سبباً مباشراً في هذا التمدد الخطير لتنظيم داعش ووصوله الى حدود بغداد ولولا حشود المتطوعين والتي نهضت تلبية لنداء المرجعية الدينية لسقطت بغداد وامتد داعش الى محافظات الوسط والجنوب .
على اثر هذه الأحداث وسقوط الموصل ومحافظات اخرى تشكّل تحالفاً دولياً ضم ثلاثين دولة تقوده الولايات المتحدة والذي أعلن حربه على الارهاب في العراق ، اذ بدا خافتاً دون مستوى القوة العسكرية والاقتصادية للدول المشاركة ، كما ان التشكيك بنوايا هذا التحالف كانت حاضرة في مدى جديته بمحاربة داعش ، خصوصاً وان اغلب التقارير تشير ان تأسيس تنظيم “داعش ” كان عالمياً وحضي بدعم القوى الغربية ليكون سلاحاً لضرب الاسلام من الداخل .
ان معالجة الإخفاقات الامنية في العراق يجب ان تسبقها معالجات في المنظومة السياسية والاجتماعية للبلاد ، وهي المفتاح لتقويض استدامة الارهاب الداعشي على المدى الطويل ، لان عملية التصدي لتنظيم داعش ربما ستطول في العراق او المنطقة عموماً وعلى القيادات السياسية النظر على الجانب السياسي اكثر من الجانب الامني لان اي هدوء سياسي يعني هدوءً أمني ، كما ان على الجهات الفاعلة والتي كانت ضحية الارهاب القاعدي والداعشي في الدول الإقليمية ان تعمل معاً من اجل مواجهة خطر تمدد الارهاب الى بلدانها وتعطيل قدرتها العسكرية من خلال تجفيف منابع تمويلها ، واستهداف قيادتها الذين يقيمون في الدول العربية والإسلامية نفسها ، وتقييد استخدامها لوسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التجنيد ونشر المعلومات وجمعها .
اذا أردنا القضاء الفعلي على داعش فعلى الساسة العراقيين تحييد الارهاب الداعشي من خلال اعلان مؤتمر “المصالحة الوطنية ” ولجميع مكونات الشعب العراقي والبدء بعقد جلسات سريعة لتدارك الموقف وكسب المواقف السنية وعزل الارهاب ، لان النصر المتحقق اليوم على تنظيم داعش في مختلف الجبهات لا يمكن ان يكون نصراً ما لم تصاحبه عملية مصالحة وطنية شاملة ، تسير مع هذه الانتصارات ومثل هذه الدعوة ليست عنصر ضعف ، بل تأتي من موقع القوة للحكومة والدولة ، خاصة بعد رفع راية النصر على الارهاب الداعشي والبعثي في تكريت ، والذي جاء بتظافر جهود القوى الامنية ورجال الحشد الشعبي وابناء العشائر في تلك المناطق الذين حاولت بعض الجهات تشويه والتشويش على هذه الانتصارات من خلال بعض التصرفات غير المسؤولة للبعض والتي بالتأكيد مرفوضة وتسيء لتضحيات وشجاعة الحشد الشعبي والذي سَخَّر نفسه من اجل تطهير بلده من رجس الدواعش .
ان تعزيز ثقافة نبذ الارهاب والعمل المشترك على تجاوز الطائفية في شتى المجالات هي اول الحلول لهذه المشكلة والتي تتطلب تعميق الثقة بين المكونات السياسية و العمل المشترك في تجسير العلاقات فيما بينهم ، والانطلاق نحو تنمية العقول باتجاه بث روح التسامح واحترام الاخر وترسيخ التنوع الثقافي باعتبار ان الدين الاسلامي الحنيف يدعو الى المحبة والسلام ، وان الارهاب والتطرف من الوسائل الخبيثة والدخيلة على الدين وان هذا الامر يدعونا لمواجهة الأسس التي انطلق منها هذا الفكر التكفيري التدميري وإيقافه وتحصين المجتمعات بالثقافة الرصينة الواعية لدرء خطر هذا السرطان الخبيث والعيش في مجتمع موحد لا تسوده الأفكار الضالة والمنحرفة والتي انتشرت في المحيط العربي والإسلامي مؤخراً .