علوان السلمان
الشعر موقف مكثف حاصل من تلاقي القيم وصراع تضادها ..كونه فلسفة الكلام والحاجة الوجودية التي تعبر عن موقف ازاء حركة العالم..والذي تتأكد من خلاله ارادة الانسان الشاعرمن اجل التغيير للوصول الى المثال.. كونه صاحب قضية من خلالها(ينشيء من العالم المفروض عليه عالمه الذي يحلم به..) كما يقول بول ايلوار..بتمثيله قمة الهرم الوجودي بوعيه وقدرته على الخلق والتعبير من خلال النص الشعري الذي هو حركة تتشكل بؤرتها في كل لحظة ..وفي هذا يقول غوته (ان قصائدي جميعها قصائد ظرفية مستوحاة من الواقع ومؤسسة عليه ومستقرة فيه..)
ولافتات الشاعر (احمد مطر) تعبير عن تجربة انسان يحس الحياة ويعانقها ويتفاعل معها.. فيبكي مأساة الانسان والانسانية بصمت فيرفع يديه احتجاجا على واقع اجتماعي متدني بوعي يتجلى في معظم قصائده..اذ تحديد الزاوية التي يلتقط منها صوره مع اعتماد لغة سهلة وهدوء معمق ..
دخلت بيتي خلسة من اعين الكلاب
اغلقت خلفي الباب
نزلت للسرداب
اغلقت خلفي الباب
دخلت في الدولاب
اغلقت خلفي الباب
همست همسا خافتا: (فليسقط الاذناب)
وشت بي الابواب
دام اعتقالي سنة.. بتهة الارهاب / ص363
فالقصيدة التي هي صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي وسيلتها اللغة وغايتها الاسهام في بناء الانسان وتهذيب الذوق.. اذ يتحول فيهاالمتلقي الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل.. باستدعائها مهارة فنية وقدرة على التركيز بابتعادها عن الوصفية والسرد.. كونها ضرب متميز من التقنية في القدرة على ايجاد بنية شمولية في اسطر محدودة .. لذا فهي تتطلب وعيا متميزا للمعنى والمبنى في صميم العلاقة بينها والمحيط..
واحمد مطر شاعر المنفى والحزن والثورة الذي ركب سفينة المقهورين.. فلازم الانتقال من مكان الى آخر خوف السلطات بدأ كتابة قصائده القصيرة جدا على شكل لافتات المظاهرات التي تحمل عباراتها الموجزة المعبرة والتي تحقق مقولة النفري( كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا)..وهي تعبر عن الحرية التي هي (وعي الضرورة) بالتزامها قضية الانسان المقهور التي وازاها التزامه الفني.. واعلان الشاعر فيها عن تمرده ضد انظمة القمع فكانت حادة في بنائها.. لانه يرى (ان رسالته الكبرى في شعره هي محاولة اخراج الناس من عبودية العبيد للحرية الكبرى..) ..اضافة الى ذلك انها تتميز بسهولة الفاظها مع رصانتها ووضوح هدفها الانساني والتحريضي..
ترك اللص لنا ملحوظة
فوق الحصير
جاء فيها:
لعن الله الامير
لم يدع شيئا لنا نسرقه
….. الا الشخير /477
فالشاعر يكثر من التمسك بالقافية الموحدة ..كونها توفر نوعا من الايقاع الذي يتطلبه الشعر السياسي التحريضي.. فكانت لافتاته نفثات انفعال مكتوبة بتأمل اثقله حوار الذات مع اعتماد المفارقة باشكالها المنوعة للتخفيف من حدة المعاناة والتي توزعت ما بين المفارقة اللغوية اذ التلاعب بدلالات الالفاظ ..اضافة الى تبنيه دلالات لنقل افكاره بوساطتها..
جس الطبيب خافقي
وقال لي :
هل ها هنا الالم؟
قلت له: نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي
واخرج القلم / ص18
فهذه القصيدة حشد من الدلالات التي حققت نجاحا في نسجها الفني الداخلي..فهي تكشف عن الهام صادق وجهد للتعبير عن تجربة اصيلة ومحاولة للامساك بها في وحدة نغمية .. فالقصيدة حركة في اعماق
الشاعر تتنازعها عواطف وعقبات وحركة الصعود فيها باطنية يعبر عنها ظرف المكان(هنا) وهو ظرف مكاني نفسي.. و(هنا) يشير الى الجيب لا الى القلب..
وهناك المفارقة المقلوبة التي اخذت حيزها في لافتاته كما في (التقرير)..
كلب والينا المعظم عضني اليوم ومات
فدعاني حارس الامن لاعدم..
بعد ان اثبت تقرير الوفاة
ان كلب السيد الوالي تسمم /ص73
فالقصيدة تنم عن قدرة بنائية ..كون الشعر عنده مغامرة يخوضها متصارعا مع واقع حياتي بكل تناقضاته..لذا فهي تقدم نسقا احتفاليا يقوم على انتزاع الصور التي امتازت بحسيتها المتوالدة في الذهن وهي صور مقصودة لذاتها في نقد واقع اجتماعي معاش..
اضافة الى المفارقة السردية .. اذ فيها يعتمد الشاعر الفعل الدرامي المبني على تعدد الاصوات كما في (عائد من المنتجع)..
حين اتى الحمار من مباحث السلطان
كان يسير مائلا كخط ماجلان
فالرأس في انكلترا
والبطن في تنزانيا
والذيل في اليابان
قلنا له:
ـ خيرا ابا اثان؟
ـ اتقثدونني (اتقصدونني)؟
ـ نعم مالك كالسكران؟
ـ لاثيء(لاشيء) بالمرة يبدو انني نعثان(نعسان)
ـ هل كان للنعاس ان يهدم الاسنان او يعقد اللسان؟
ـ قل عذبوك..
ـ مطلقا..كل الذي يقال عن قثوتهم(قسوتهم) بهتان
ـ بشرك الرحمن..لكننا في قلق..
قد دخل الحصان منذ اشهر ولم يزل هناك حتى الآن
ـ ماذا سيجري او جرى له هناك ياترى
ـ لم يجر ثيء(شيء) ابدا كونوا على اطمئنان
فأولا يثتقبل(يستقبل) الداخل باطمئنان
وثانيا يثأل(يسأل) عن تهمته بمنتهى الامان
وثالثا انا هو الحثان(الحصان) / ص233
ففاعلية الصورة الشعرية عند الشاعر تقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي شعري يقوم على وحدة موضوعية امتازت بسلامة ايقاعها وصياغة لغتها البديل الشعري للواقع باختراقها الآفاق التي لا تحدها حدود والتي يتحرك في فضائها الشاعر ليملأ جميع الفراغات ويخترق كل الاتجاهات فيعانق وطنه المفقود في الغربة ويتهامس معه وهو يبني احلامه..مع قضيته التي باتت تعيش معه داخل مقتضيات الشعر ورؤيته الفنية التي تحددها مشيئته وليس امرا مسلطا عليه من خارج النص..
اكتب لنا قصيدة
لاتزعج القيادة
(………)
تسع نقاط؟
ما الذي يدعوك للزيادة؟
(…….)
سبع نقاط؟
لم يزل شعرك فوق العادة
(…..)
خمس نقاط؟
عجبا.. هل تدعي البلادة؟
(.)
واحدة ؟
عليك ان تحذف منها نقطة
احذف فلا جدوى من الاسهاب والاعادة
( )
احسنت …..
هذا منتهى الايجاز والافادة /ص220
فالتنقيط تقنية زمنية تعني القفز فوق فترة طويلة او قصيرة من الزمن الشعري.. اضافة الى انه يشكل وسيلة تعبيرية ترمزللمحذوف
من التعابير مع اضفاء جو نغمي يحرك الخزانة الفكرية للمتلقي ويحثها على التأمل من اجل استيعاب المحتوى والوقوف على نوع الدفق الفكري والوجداني للشاعر.. وعدمه يعني الصمت ومنتهى الايجاز المقبول لدى السلطة .. وهو في هذه القصيدة يعتمد النزعة التفسيريةـ التعليليةالواعية ..لكي يشد العبارة الشعرية بعمق الرؤيا التي تخفف من وطأة السرد.. فالشاعر في هذه القصيدة هو الذات والموضوع وقوى النفس مجتمعة ..خالقة مضامينه الموغلة في العمق..اذ يحاول بانفعاله الداخلي ان ينقل اسراره في جو من الايحاء.. ومن ثم استحضار الحقيقة بذاتها فكانت القصيدة ممتلكة لحركتها الوجودية مع رؤيا الشاعر التي اخذت تسجل اللحظات التي تستملكه من الالم والحزن والقلق فخلق بذلك اسطورته بيقينه الشعوري المتحد مع خياله الذي جعل من الصمت (خلو الاقواس من النقاط) وهذا ما يتطلبه الواقع السياسي من الشاعر المحرض ضد الباطل.. فحوارالذات والصدى قائمة على منولوج داخلي يعبر عنه الشاعر بيقظة .. لذا فهي تنقل احساسه تجاه التجربة الحياتية التي يعيشها.. فيخرج في قصائده من ازمته النفسية الباطنة الى آفاق الموضوعية وحقيقة ازمة الانسان باعتماده بناء شعريا دراميا يقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي شعري يقوم على وحدة موضوعية امتازت بسلامة ايقاعها وصدق عاطفتها ..كونها تعويض عن الغربة والحزن بتكثيف الصور وشحنها بايحاءات بعيدة المدى .. وبذلك يغني الشاعر قصيدته معنى ومنطلقا وحوارا وحركة محاولا اضاءة الجوانب الداخلية من خلال تصوير اللحظات التي تتأزم فيها نفسيته حتى بصل الى ذروة الاحساس فيضعنا امام رؤية مليئة بالواقعية والدهشة..