فرج ياسين
بكر وعباس ، جعلا الشمس الموشكة على الغروب خلف ظهريهما واستقبلا طريق الشوك . منذ شهر وهما يحلمان بإعادة الكرَة كما لو كانا شابين ، نسجا شبكة قمعيّة الشكل ، ورسما على الأرض مثلثاً بثلاثة عيدان انتزعاها من ثلاث مجارف نصف عمر، من دون استئذان من أبنائهما ، وبعد أن طرحاً المثلث المربوط بالخيوط على الأرض ، ووصلاه بالشبكة عيَناً مكان خيطي الخناق والحساس ، وفي خلال أيام قلائل اجريا تجربة أخيرة ، إذ قاما برفع ذلك التشكيل المنقرض أمام الجميع ، وما أن أخذاً وضع الصياد حتى أعلنا نافذي الصبر : هذه هي الشيحا ، لكن أحداً من صيادي هذه الأيام لا يعرف عنها شيئاً .
– عباس وبكر اختارا أصيلاً تموزياً لانطلاقهما ، قائلين انه في مثل هذا الوقت من السنة ، وفي ليلة من دون قمر ، يتجول سمك القطّان في داير حيدا حتى مطلع الفجر ، ثم صنعا من عبائتيهما صُرتين ملآها بالشباك والخيوط وتقاسما حزمة العيدان والأوتاد ، وبعد أن طرحا كل ذلك على كتفيهما ، لم يلتفتا إلى هذر الصبية الساخرين ، بل جعلا يراقبان الطريق النيسمي النحيل وهو يصعد إلى عينيهما .
– بكر وعباس ، تلبثا مرتين أو ثلاثة بعد الشوط الأول ، داسا على ما يفترض أن يكون ظلاً عميقاً شاهقاً لعمود صخري ، فراحاً يجمعان شتات آخر صورة شاهداها لفراخ اللقلق المنتظرين بين أسمال عشهم القديم ، والطريق يهوي في منحدر متدرج محفوف بهشيم حجارة جصائية ، وتراب مجبول برائحة قطيع بقر يمر في اليوم مرتين . جال في خواطرهما إن هذا الطريق لم يكن هكذا على أيامنا ، ثم لاحت تلك الفتحة المنحوتة في الجبل على شكل رقم ( 7 ) فمسح الطفلان الغافلان غبرة النوم عن عينيهما وطفقا يرتعدان ، شاهدا سعالياً وغيلاناً ومردة عماليق ، يخرجون زرافات من قماقم قصديرية ، ثمة حسين النمنم وفريج الأقرع وشقّاق البطون وشياطين يقذفون بالحجارة من هوة الظلمة في الشق الصخري ، وينادون الأشخاص بأسمائهم ، وهما حالمين مع طيف جنية تظهر فجأة ثم تجول فوق لوحة العشب الصغيرة في فوهة الطريق ، وتنفلت كاشفة عن عريها ، ثم تتلاشى في الظلمة .
– عباس وبكر ، مضياً يدرجان سمعا صوت هديل حزين فوق رأسيهما ، ولما نظرا لم يريا يمامة بل ورلا كبيراً ترابي اللون ، حث بينهما سيلا من حصيات صغيرة وهو يولى هارباً عبر الشقوق الكثيرة في الجبل ، قالا في نفسيهما ، لا تثريب فهذه عادته القديمة ، لكن طيوراً حامت حولهما ، وجنادب صرّت ، وضفادع نقّت ، ثم سمعا سقسةً رتيبة متصلة النبر ، فهزجا صامتين :
خرنوب نايم بالعين
وريج لمن يسكَر
كان عليهما أن يرسما طريقاً خيالياً من اجل أن يتجنبا هذه الفوضى لذلك ما عادا يعبأن لاختراق المشاهد المألوفة تحت أقدامهما ، صارا ينظران إلى الأمام . تحاذيهما صراة نحيفة راكدة تحف بها شجيرات العاقول والشوك ، وتمرق من بين أقدامهما طيور القُبَّر والصعو والدوري والهداهد ، وتذعر الهوام الصغيرة فتسارع إلى الاختفاء في الأجمات الملتفة .
– بكر وعباس وصلا عند الغروب ، ذهلا لعدم تغيير المكان ، الصخور ما تزال صقيلة لامعة تستقبل موجات الشاطئ والغربان والشياهين خلفت للتو أنغام رفيفها فوق حافات الصخور ، نظرا إلى الثقوب المعلقة فوقهما ، ثمة عدد من فراخ البواشق والشقراق والحمام ، تطل من أعشاشها بمناقيرها الصفر الدقيقة ونجواها الخافتة . تذكرا أسراب القطا في ظهيرة ما ، وهي ترف فوقهما ذاهبة لترد الماء في الجزيرة المقابلة ، ثم تعود ثقيلة بطيئة متراخية الأجنحة إذ يصوبان مقلاعيهما ويرديان بعضاً منها ثم يشويان ما غنماه على نيران أغصان السدر ، في ديوان شيشين ، الملاذ الدافئ للصيادين الغابرين.
– عباس وبكر ، القيا حمولتيهما وقرفصا على الجرف يتوضان ، ويستمتعان بصفاء الماء وهو يشف عن ألوان الأعماق المختلطة ، اسماك وغيالم واشنات وعظام ، وأشباح أجيال من الصيادين الغابرين ، ينصب كل واحد منهم شيحته ويجلس صابراً منتظراً أن يحظى بأول الليل أو منتصفه أو آخره بغمزة حقيقية من خيط الحساس .
– بكر وعباس انزلا الشيحا في الماء ، وجلسا ممسكين بحبل الرفع وخيطي الخناق والحساس ، وحين افتقدا القمر أوقدا ناراً ، ووضعا إبريق الشاي ، ثم نشرا زوادتهما وتعشّيا ، مضغاً خبزاً وكراثاً وأقراصاً مقلية ، وهما يراقبان دوران الزبد في الدوامة ، ويصغيان إلى همسات الموج والى هزيم الصمت في عواطفهما المشدودة ، محلقين في أطياف زاخرةً بالشذا ، كنَّا وكنَّا وكنَّا ، والوقت يمر ساعة إثر ساعة ، كانت النجوم تغير مواقعها ، وأجنحة الخفاش تهس حول رأسيهما ، وأخيراً سمعا مرور قطار الموصل وصفارته الطويلة .
– عباس وبكر جعلا ينتظران نبضات خيط الحساس بين لحظة وأخرى ، وحين عدما همسها الراقص بين أناملها ، استسلما إلى استرجاعات قديمة ناعمة ، ثمة سمكة قطان كبيرة ، سمكة سمينة عذراء تتبخر في مرورها الباذج معاندة سورة الدوامة الثائرة أمام عينيهما ، لقد استغرق بريق مرورها أيام الفتوة والشباب ، وقفز بهما إلى حافات الشيخوخة التي يجدان الآن في مقارعة سطوتها في جسديهما المهزومين . كانت ستخرج من قمقم الماء وتخطر إزاء صبواتهما ، تدور في الدوامة وتستعرض عريها الفضي ، في أطواق من الموجات المتلاحقة مذكرة بحضورها الأبدي في ذاكرة النهر ، تحت السماء العذراء ، وبين الصخور التي لم تثلم الأنواء زينتها الملكية ، لقد فكرا برهة بأنهما ماكانا سيتجشمان هذه الليلة القاسية ، لولا أنها كانت تلوح في أحلامهما منذ أن أصبحت الشيحا آلةً منقرضة لا يعرف عنها صيادو هذه الأيام شيئاً .
وفي مداخلة حلمية كامدة ، شاهدا صياداً يجلس مهموماً أمام آلة شبيهة بآلتهما ، يلمح في فترة من الشهوة المحترقة بزوغاً فضياً ينقدح في زواق مهرجان ، فيخفق بين أصابعه خيط الحساس ، لكنه ما أن يفيق من تهويمته ويقوّم جذعه حتى يتلّه حبل الرفع فيهوي جسده بين خيوط الشبكة الملتفة ، فلا يقوى على التخلص منها ، وبعد ساعة تسلم الدوامة جثته إلى تيارات الصباح الغاضبة .
– بكر وعباس ، سحبا الشيحا من الماء ، والقياها على الحافة الصخرية ، انتزعا خيطي الخناق والحساس ، وحلّا عقد الخيوط الرابطة ثم انتزعا الأوتاد والعيدان الثلاثة ، ونشرا الشبكة في مكان خلف ظهريهما عند السفح وانتظرا حتى جفت الخيوط . بدءا جمع أغراضهما وصنعا من عبائتيهما صرتين ملأهما بالشباك والخيوط في حين تقاسما حزمة العيدان والأوتاد ، وطرحا كل ذلك على عاتقيهما ، ولم يصغيا إلى أضغاث طريقهما الخيالي .وهما يغادران عند الشروق