ميسون أسدي
يحكى والله أعلم، أنّه كان هناك كلب يدعى غضنفر، مُهيب بطلعته، غليظُ الجُثَّةِ، كثير الشعر. وقد كُلف هذا الغضنفر بحراسة عزبة كبيرة تمتد على مساحة شاسعة من الأرض المزروعة بالأشجار المثمرة، يسكنها صاحب العزبة ومجموعة كبيرة من الحيوانات التي تقوم بمهام مختلفة داخل المزرعة.
استأنس صاحب المزرعة بالغضنفر، وارتبط كلّ منهما بالآخر برباط ودي، وتولّدت بينهما صداقة أخذت تنمو خلال السنين، لما تمتّع به الكلب من صفات الوفاء والإخلاص لصاحب المزرعة وقدرته الكبيرة في الصبر وتحمّل المشاق والشجاعة ووفائه لعمله.
حمل غضنفر المسؤوليّة الرئيسيّة بحراسة العزبة الكبيرة، لذلك كان يلجأ للنباح عند ملاحظته لأيّ تغيّرات في البيئة من حوله، أو عند شعوره باقتراب خطر ما، فينبّه صاحب العزبة وكل من يسكن فيها إذا تعرضوا للخطر أو لأيّ تسلّل من أحد غريب للسرقة والتخريب، فكان غضنفر يهبّ للنباح كاستجابة لمحفزّات مثل صوت سيارة، أو صوت شخص قادم إلى العزبة.
رغم أنّ جميع الحيوانات كانت تعمل بكد إلا أن الغضنفر كان جالسًا بمزجره جانب البوّابة الرئيسية متيقّظًا، لكلّ شاردة ووارد، وبمجرّد سماع نباحه بين الفترة والأخرى، كان ينبّه ساكني العزبة للخطر الوارد من الخارج…
نظرت بقيّة الحيوانات إلى الغضنفر بغيرة وحسد وتمنّت ان تصبح منعّمة معزّزة مثله ورغبت بأن تزول قوّته وإنجازه لأنّه أرفع منهم قيمة وأعلى شأنًا عند صاحب العزبة، فقد كان يصله الغذاء والشراب إلى جواره دون أن يحرّك ساكنًا، وبقيّة الحيوانات تأكل فقط أثناء الموعد المحدّد لها، تترك العمل وتتّجه إلى حظيرتها أو إلى أقنانها وأوكارها وجحورها. وتمنّت باقي الحيوانات أن تُمدح كما يُمدح غضنفر من صاحب المزرعة. فبات الحسد والحقد أحد أقوى أسباب تعاسة بعض حيوانات المزرعة. فكرهوا النعمة عند الغضنفر وتمنّوا زوالها. فلم تفهم بقيّة الحيوانات عظمة المهمّة التي يقوم بها الكلب…
ضمرت بعض الحيوانات مثل الثور والثعلب والضبع والخنزير، الضغينة للغضنفر، وبدأوا بتحريض صاحب العزبة على الكلب الوفي، وقالوا له أنّ النباح يزعجهم ويعيق عملهم ويقلل من انتاجهم. وذات يوم اتى صاحب المزرعة وقال له: أيّها الغضنفر لا تنبح بعد اليوم وعليك ان تموء مثل القطط لأنّ نباحك يسبب إزعاجاً للحيوانات المتواجدة معك في نفس المنطقة، وإذا لم تفعل ذلك سأعاقبك!
استجاب الكلب لطلب صاحب العزبة من منطلق الوفاء، لكنّ الحيوانات الحاسدة والحاقدة، لم تكتف بذلك، فقامت بتحريض صاحب العزبة مرّة أخرى، وطلبت منه أن يحضر الكلب الغضنفر لتناول الأكل معهم ساعة الغذاء ولا يُرسل الطعام الى مزجره بجانب بوابة العزبة.
استجاب صاحب العزبة لطلب الحيوانات وأمر الكلب الغضنفر بأن يترك البوّابة ويتناول طعامه مع باقي الحيوانات ساعة الأكل في غرفة الطعام…ضاربًا عرض الحائط بأهمّيّة تواجده الدائم بجانب البوابة. مرّة أخرى استجاب الغضنفر لصاحب العزبة على مضض لأنّه وفي ومخلص، وليس من منطلق القناعة بالأمر…
رويدا رويدا استطاعت الحيوانات الحاقدة أن تسحب من الكلب معظم مسؤولياته… حزن غضنفر كثيرًا وتوقف عن النباح. معللا الأمر بأنّ عليه أن يتنازل وأن ينحني قليلا للعاصفة حتّى تمرّ حفاظًا على نفسه وقليلا قليلا تخلى عن وظائفه مقنعًا نفسه بأن للضرورات أحكام.
لم تهدأ العاصفة الحيوانية الحاسدة واستمرّت في العمل الباطل، ويومًا بعد يوم أخذ يزداد تحريض الحيوانات ضدّه. وتضاعفت المطالب المُهينة من قبل صاحب العزبة للغضنفر وتحول الكلب في المزرعة الكبيرة إلى مجرّد فأر، يساعد الدجاجات في البيض والبقر في الحليب والثور في الحراثة. وأخذت بعض الحيوانات من حوله تسخر منه وتهينه على الملأ، إلى أن قام صاحب العزبة بطرده نهائيا من العمل بعد أن نجحت الحيوانات الحاسدة بإزالة النعمة عن الغضنفر، وقُطع حبل المودّة بين الحيوانات بسبب البغضاء والغيبة والنميمة. عندها وقعت العزبة في حالة من التفكك والتخلخل.
بعد عدّة أيام من طرد الغضنفر، داهم اللصوص العزبة من خارجها ومن داخلها، وتعاركوا مع الحيوانات ونهبوا العزبة وعاثوا بها فسادا… ولم ينج من الخطر الداهم أحدا وقد نال الضرر حتّى الحيوانات المحرّضة.
نظرت الحيوانات المنكوبة إلى ما آلت إليه العزبة، وأخذت تستغيث، لكن لا حياة لمن تنادي، وترحّمت على تلك الأيام التي كانت تعيش بها في أمن وسلام تحت حراسة زميلهم الغضنفر.