صلاح زنكنه
كنت قد قررت مع نفسي من وقت بعيد أن أقتله حتى لو تبقى لي من العمر يوما واحدا, واحدا فقط.
هكذا خاطبت الفتاة هالة ذات الخامسة والعشرين من عمرها هيئة المحكمة الجنائية والمتهمة بجريمة قتل عمدٍ عن سبق إصرار وترصد.
لكنها لم تقتله هو إنما قتلت ابنه كي تحرق قلبه كما حرق قلبها اليافع قبل خمسة عشر سنة حسب روايتها أثناء سير مجريات المحاكمة.
هالة روت حكايتها بكل وضوح وجرأة في المحكمة رافضة توكيل محامي عن قضيتها التي أسمتها بقضية انتقام الضحية من الجلاد والتي كسبت تعاطف الرأي العام.
بدأت كلامها وكأنها تمثل دورا في فلم سينمائي :
– يا سادة يا كرام يا أرباب الحكمة والعدل والنظام .. أنا ضحية مجرم قاتل شرير وحانت الفرصة التي اخترتها بعناية لكي أنتقم منه بطريقتي الخاصة رغم اعترافي أن المجنى عليه لم يكن طرفا في الجناية.
ثم أردفت بهدوء ورباطة جأش.
– هل تسمحون لي أن أحكي لكم الحكاية من بدايتها إلى نهايتها ولكم ما تشاؤون من فرض عقوبات على جنايتي أو جريمتي كما يحلو لكم.
تفوه القاضي قائلا .
– تفضلي يا بنيتي .. لكن باختصار رجاء.
أجابت واثقة.
– وهو كذلك سيدي القاضي.
وأضافت.
– كلكم تعرفون السيد خزعل الملقب بخزعل السفاح أحد رموز الحكومة الحالية .. لا أحتاج إجابة منكم أنا على يقين أنكم تعرفوه جيدا .. لكن ما لا تعرفوه أن السيد خزعل دهم بيتنا في ليلة ظلماء مع ثلة من الرجال المرتدين ثيابا سود والمدججين بالبنادق والمسدسات, وهم يشتمون أبي بأقذع الألفاظ النابية, ويجرجروه من غرفة نومه, قاذفين به على أرضية الصالة يدوسون عليه بأحذيتهم, وأنا أرتجف مذعورة باكية بين أحضان أمي المتوسلة بهم أن أرحموه يا ناس.
في هذه اللحظة أجهشت في البكاء وأردفت ماسحة دموعها.
– كنت في العاشرة من عمري لا أفقه شيئا من الحياة سوى أن أبي أجمل رجل في الدنيا وأحن إنسان في الكون, وأرق وأعذب أب بين الآباء أجمعين .. لماذا يبطشون به هؤلاء الأغراب المتوحشون .. لماذا يكرهونه كل هذه الكراهية؟
– لم يصرخ أبي كما كانت تفعل أمي .. لم يتوسلهم كما توسلتهم أمي .. لكنه كان يشعر بالمهانة .. هل تعرفون مذاق المهانة ؟ المهانة المرة من أناس جائرين بلا رحمة بلا أخلاق بلا ضمير بلا شرف .. يهينون رجلا أبيا مثل أبي أمام زوجته المنكسرة وأبنته الصغيرة المرتعبة بكل قسوة وعنجهية.
بكت ثانية وأضافت.
– صعب عليّ أن أصف وأختزل لكم تلك اللحظات الرهيبة المشوبة بالخوف والذعر والهلع .. لكنني سأختصر لكم النهاية .. أفرغوا بضع أطلاقات في رأسه مباشرة .. عفوا يجب أن أنوه أفرغ السيد خزعل السفاح ثلاث رصاصات من مسدسه في رأس أبي.
– وقد تسألون وتتساءلون كيف عرفتِ أن السيد خزعل هو قاتل أبيك وليس غيره؟
– أقول لكم مستحيل أنسى صوته وصراخه .. ولا قسمات وجهه .. ولا قسوة عينيه الجاحظتين .. ولا مسدسه اللعين.
– كبرت وكبرت المأساة معي .. مأساة فقد الأب بطريقة وحشية همجية بربرية.
– وشاهدت السيد خزعل قاتل أبي مرات ومرات على شاشات التلفاز وهو يتحدث عن الوطن واللحمة الوطنية والعدالة الاجتماعية والكثير من الخزعبلات مما أصابني بالقرف والاحتقار لهذا المجرم المحترف الذي قتل المئات غير أبي .. وقررت مع نفسي أن أقتله مثلما قتل أبي وحرمني من أمانه وحنانه.
طلبت قنينة ماء بعد سادت حالة من الصمت والذهول على المجتمعين في أرجاء قاعة المحكمة, شربت قليلا من الماء وأكملت حكايتها المرة الصادمة.
– بالمصادفة المحضة اكتشفت على موقع الفيس بوك أن للسيد خزعل ابنا في عمري, وبحسي الأنثوي خاطبت نفسي إنه المراد, هنا تكمن الضربة القاسية لهذا الباغي الجلاد, طلبت صداقته على الفور فاستجاب, وهكذا نسجت حوله خيوط أنوثتي حتى أوقعته في الشرك.
– أقسم لكم بتراب أبي .. كان بإمكاني قتل هذا الوغد المسمى خزعل السفاح بعد أن أطمئن لعلاقتي مع ابنه المدلل الذي جعلني واحدة من أهل البيت من دون تزكية .. لكن الجرح الذي تركه في وجداني جعل مني مجرمة محترفة تدرك كيف تصوب طعنتها النجلاء صوب المجرم المحترف.
قاطعها القاضي لأول مرة.
– نحن نؤمن يا بنيتي بالآية الكريمة التي تقول وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين, لماذا لم تقتلي القاتل الذي قتل أباك ؟ لماذا قتلتِ شخصا بريئا لم يقترف جناية قتل أبيك ؟
قالت ببرود أعصاب.
– لكي يشرب من ذات الكأس التي شربتها .. لكي يذوق مرارة الفقد .. لكي يتجرع الألم والوجع والذل .. لكي يموت وهو حي .. هذا ما فعلته بقصد انتقام متعمد .. لكنني أعترف بجريمتي وأنا بغاية السعادة كوني استطعت أن أزرع التعاسة في قلب كائن شرير حرمني من السعادة وتوجني بتعاسة أبدية تكللت بكم من الكراهية, الكراهية تدوس دائما على قيم الحياة العليا ولا تأبه أبدا لغير سمومها.
– السيد خزعل جعلني أفعى مسمومة .. أفرغت سمي في جسد ابنه وارتحت, ولكم أن تعدموني بعد أن أعدم المجرم أبي وأعدم طفولتي وبراءتي وأنوثتي.
نقر القاضي بمطرقته الخشبية نقرتين على المنصة وأعلن :
– تؤجل الجلسة إلى يوم غد.