منذر آل جعفر
(لقد عدنا يا صلاح الدين) بهذه العبارة خاطب الجنرال غورو قبر صلاح الدين الأيوبي حين دخلت جيوش الاحتلال الأجنبي الوطن العربي، ولوثت أقدام الغزاة الأرض المقدسة الطهور، وداست الأضرحة والمراقد والجوامع وشوهت حناجر القراء والمؤذنين والخطباء وأخرست أصوات النواقيس، وفرقت الأمة التي لا تجتمع على ضلالة، ونبشت قبور الموتى الذين يشكلون خطرا عليها بموتهم كما كانوا يشكلون تهديدا لها في حياتهم، الذين منهم صلاح الدين الأيوبي.
(لقد عدنا يا صلاح الدين) كلمة غورو المشهورة لم تكن كذبا ولا افتراء، بل قالها عدو ظل صدره ممتلئا بالحقد قرونا على ما أنجزه الجيش العربي الإسلامي في معركة حطين ورثه جيلا عن جيل وراثة الأبناء للآباء والأجداد يستمدون منهم ما يرونه مناسبا لحياتهم من القيم، أيا كان نوعها، ويضيفون إليها الجديد، ولا يجعلون التاريخ صنما من الأصنام التي يعكفون على عبادتها ويقولون ( إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) ولا يشكل التاريخ عقدة من عقدهم الشخصية والاجتماعية بل يعتزون به تاريخا على قلوبهم اخذين من المفيد وتاركين المضر، متمسكين بمواضع الاتفاق فيه وهاجرين ما يؤدي إلى الاختلاف والفرقة .
لا أحد يستطيع أن ينكر إن التاريخ العربي مجيد، وان العرب كانوا أصحاب حضارة تتوغل في القدم آلاف السنين فهم أهل وادي الرافدين والجنائن المعلقة وهم أهل بعلبك وتدمر وحضارة النيل وهم أهل قبة الصخرة والمسجد الأقصى وهم أول من اخترع الورق والمنجنيق والبارود والكتابة والقراءة وأول من صنع السيوف والرماح العوالي ليحاربوا عدوهم وهم أهل الفلسفة والفكر والعلم الذي أخذته أوربا وطورته وأضافت إليه كثيرا وصعدت به إلى السماء .
لنسال أنفسنا بعد أن وضع أعداء الأمة العربية كل إمكاناتهم لحربها: ماذا فعلنا استعدادا للمجابهة؟ أين وصلت الفلسفة العربية وما هو مداها؟ وماذا حل بهذه الأمة؟ وأين هي الأواصر والروابط بين القبائل والبطون والأفخاذ والدول العربية؟
لا أقول يجب أن نتخلص من تاريخنا، ولا أقول يجب أن نرمي بالسيوف في الأنهار، ولا أقول نحرق المعلقات، ولا أقول صه لحنجرة قس بن ساعدة الايادي، ولا أقول اللعنة على حلم الأحنف بن قيس، ولا أقول يجب أن نلعن حاتم الطائي بتهمة أنه كان مسرفا ومبذرا وأن الله لا يحب المسرفين، ولا أقول يجب أن نقدم صلاح الدين للمحاكمة بتهمة انه طرد المحتل من بلاد العرب، ولا اقول يجب أن نقاضي عنترة بن شداد لأنه كان شجاعا .. ولكنني أقول: يجب أن نتهم أنفسنا بالقصور عن خطى هؤلاء وهدم ما شيدوه وتخريب ما عمروه ولا يقاس ماضي الأمة العربية على حاضر الأمم الأخرى فهذا القياس باطل والصحيح أن يقاس حاضرنا على حاضرهم لأنهم استطاعوا أن يتخلصوا من عقد الماضي، أما نحن فلا نريد أن نعيش في بطون الكتب ونفتخر بسيرة الأجداد وملاحمهم فنقابل الدبابة بالسيف والطائرة بالبعير والسجادة الفاخرة بالحصير، بل نريد شعبا عربيا عصاميا غير عظامي.. لقد جاهد صلاح الدين الأيوبي منذ قرون وانتصر ومات ولم تبق منه إلا حسناته وصفاته الخالدة، فمن غير الطبيعي أن تدعوه التجانيد العربية للخدمة العسكرية، بل يجب أن تدعو الذين يفخرون به ويتصفون بصفاته، ومن الفريضة أن يكون المقاتلون في الجيوش العربية أبطالا بأنفسهم حتى نقدر أن نقول بملء أفواهنا لا مجرد كلام في كلام (لقد عدنا يا حضرة الجنرال غورو) والأيام دول بين الناس والحروب سجال كرّ وفرّ .. والزمان طويل.