ليث العبدويس – بغداد
هذا أنا دونكِ، عارٍ عن الدليل منزوعُ الحُجج، هذا أنا، هزيلٌ، نُقطيٌّ، شاحبٍ، كالِحٌ، مُطأطأ الرأس خلف نافذة الاعتراف، قدْ أقررتُ بخطأي، اخطائي، تَلُّ خطيئاتي، فهلُمّ امحيني من سُلالة العُشاق، وما نفعُ عاشقٍ عاجزٍ عن الإتيان بالبرهان، وما نفعُ الدعاوي إن كان اصحابها ادعياء؟ فاشطبيني غير مأسوفٍ عليَّ من دفاتر مجدكِ الذي تُسطرين، فأنا، وكما تعلمين، لستُ كُفئاً ان تتراقص حروف اسمي الخائباتُ في سِفر البطولة، وانتِ التي اكتظتْ صحائفكِ بأسماء الأف الأحياء العابرين الى الموتِ بنصفِ ابتسامةٍ وشهقةٍ اخيرةٍ وقبلةٍ خاطفةٍ.
كل يومٍ أنتِ تُمعنين يا سيدة المعاني الكبيرة في اتلافِ اعصابي وارباكِ يوميّاتي الرتيبة، فهل هذه لعنتي ومُستعجَلُ جزائي وسريعُ عُقوبتي اني تخليتُ عنكِ يا كلّ احبّتي يومَ تكاثر خاطِبو وِدّكِ المُضرّجين برحيقِ جمالكِ الآسر؟ هل تعذرين خُذلاني وقعودي وكلّ اعذاري التافهات؟ فلم تُصرّين كلّ هُنيهةٍ ان تسكُبي المزيد من وُقود الأسى على حرائقي المتصاعدة عندَ بوّاباتِ اوردتي، لم تتمادين في نَكأ جراحي، في رضّ اضلعي، في طعنِ حُشاي، الا يكفي انك تتدلين للمرّة المليون من على اوتار روحي وشغاف قلبي تاركةَ اثر الياسمين الدمشقي يتضوّع في ارجاء حُجرتي التي لم
تعدْ تتسعُ لكلّ هذا الحضورِ والبهاءِ والدلالِ والغَنج؟
قبضتُ عليكِ مُتلبّسةً بالثورة مُدجّجةً بالتمرُّدِ عند الحميدية، وشهدتُ اتباعكِ يتقاطرونَ من باب كيسانَ حتى الفراديس، غارِقةً في اجتماع اللحظة الأخيرة قبلَ الصولة، ضبطتُكِ تحشينَ سِلاحكِ رفضاً بِحجمِ الكون وانتِ تُتمتِمينَ بأنشودة حربٍ ممنوعة، قراتُ كُلّ المناشير والبيانات المُذيّلة باسمِكِ الحركي، داهمتُ أوكارَ التمرُّدِ الذي تقودينَ فلم أجد سوى خربشات التحدي على الجُدران، ومُصحَفاً مفتوحاً على سورة الإسراء، وأطيافُ رِجالٍ فشِلَ الخوفُ في إقامة موطئ قدمٍ له تحت معاطِفِهم.
اتسولُّ من عينيكِ الواسعتين سِعةَ المتوسّط نظرةً اختطفها لحظة هُبوبكِ على سواتر النار وانتِ منهمكةٌ في صناعة التاريخ وأرشفة البطولة، اراقبكِ بأعينٍ ملؤها الانبهار تكُزّين بأسنانكِ اللؤلؤيّة وكأنكِ تلعنين دهر عبودية يُحتضر، اتطفّل على السُمو الذي لاحَ لي خلف جِلبابَكِ المشحون طُهراً وهيبةً ورصاصاً ومضض، اتعقّب متعجباُ انتقالة اصابعكِ البلور من الضمادِ الى الزِناد، اقفُ مدهوشاً اتأمل التماع الوهَج في ملامحكِ الأمويّة، ثم، لست ادري، اتطاير سريعاُ كأيّ غبارٍ تافهٍ نفضه لثامكِ الحازم، كأيّ ظرفٍ ساخِنٍ فارغٍ لفظه رشاشُكِ الكلاشينكوف
الهادر، اعود مطوياً كَنُسخَةٍ معطوبَةٍ من توراةٍ منسيّة او كرتلٍ من الخنافُسِ لأحلُب ناقتي العجفاء واقِطف ما تيسّر لي من شوك الصَبّار واتمرغ في اوحال هزيمتي حدَّ الاعياءِ والبكاءِ والفناء، فيما تسخرين انتِ من كلّ باسقٍ فارغٍ بعد ان راجتْ شائعةٌ مفادها انتصاركِ الساحق الناجز على صدأ القيود وسوس الاعلاف وخيباتِ أمّةٍ دجّنوها كأيّ قُطعانٍ وديعة.
فهل عرفتي – يا حبيبتي – أنكِ تمنعينني اليومَ مِنَ الكتابة؟ وهل علمتي انكِ تمارسين ضِدّي أقسى أنواع الوصاية وأعنف أشكال الرَقابة؟ آمنتُ بِكُلّ حقائِقِكِ الجَليّة، وآمنتُ أنّ من الشامِ، وليس من اي هُراء، تبدأ كُلّ الثوراتِ واليها تنتهي الأبديّة، عندها يستيقظُ الاستهلالُ ويغفو على زندِها الخِتام، آمنتُ أنّ في دِمشق وحدها، يمكن ان تُعاد صياغة العلاقة بين انبلاجات الفجر الفتي وتشوهاتُ الليل الشائخ، بين هدير التغيير وزعيق البرابرة، بين أن تجتاز وادي ظلال الموت نحو هضبة الحياة او ان تحفر قبركَ بمعول الجلاوزة، بين أن تختار طائِعاً ان تستمر في
وراثة وتوريث الأغلالِ والإذلال والاسمال او أن تضع بمدافع الحقّ حدّاً لتشبيح الصعاليك الشواذ، فحريٌّ ان تستوقف هذه القديسَةُ التاريخ فلا يعدوها، وحريٌّ بنا – وحُدودُها تحتضِنُ اراجيز الشهادة وعِبق المُكرماتِ – ان نتذلل في حضرتها داخرين، ان نخلع القُبعات وندلُفَ حُفاةً لِمعبدها المُزدانِ بما يتعذرُ حصره من اسماء الراحلين الى الخلود، ان نلثُم عتيق حِجارة اسوارِها وكُلّ شِبرٍ مُصطبغٍ بِدمٍ رفض لامُتناهيةَ الذُلّ وسرمديّة المَهانة.
حسناً، لقد خارتْ قُواي يا اقحوانة العُمر ونرجِسَة الشلالاتِ الوديعة، وها هُنا تفترِق بنا الطُرق، أنا الى وطني المُتخثّر كبصقَةِ مسلول، وانتِ نحو ينابيع الشمس ومَصبّات القَمر.