حين يصحو الانسان من غفوة قطار العمر السريع ويرى نفسه وهو ابن البارحة قد اصبح على اعتاب السبعين عاما يكون قد اغلق باب طموحات الشباب تماما وفتح ابواب التأملات والذكريات … لا ادري كيف مر بي العمر سريعا انها تأملات عميقة .. اذن لأعش تلك اللحظات مقلبا اوراقي البالية المليئة بالذكريات الجميلة تارة والمحزنة تارة اخرى.. اندماج الحلو والمرمعا والمفرح والمبكي في ان واحد … نعم اقلب تلك الاوراق التي تعيديني الى ذكريات ما قبل اكثر من اربعين عاما … وكأنها بالأمس كانت و ها انا طالب في كلية العلوم جامعة البصرة قسم الكيمياء السنة الدراسية الثانية و قد اعتزلت السكن عن اهلي بإقامتي في منزل عمي السياسي والمحامي المطارد من قبل السلطة لمرات عديدة وحين سنحت له الفرصة سافر الى الكويت ليعمل هناك في احدى الشركات وبذلك يكون قد اسدل الستارعن ملابسات المطاردات وشرها , مما جعلني حارسا لمنزله في حي العباسية الواقع منتصف الطريق ما بين العشار و البصرة القديمة براتب قدره عشرة دنانير ليكون دخلي الشهري سبعة عشر دينارا بعد اضافة السبعة دنانير المخصصة من قبل صندوق تسليف الطلبة وهو مبلغ ليس بالقليل آنذاك لشخص واحد مما جعلني معتمدا على نفسي ولأخفف من الأعباء المالية عن كاهل أبي .
في هذا المنزل اتيحت لي الفرصة ان اعيش جوا دراسيا هادئا وجعلني اعيش طيش الشباب ايام الجمع مع اصدقاء لي في الكلية من طلاب المحافظات الساكنين في الاقسام الداخلية فكان البيت ملهى ليلي في ضحى النهار فكم من بنات الهوى اتين لهذا المنزل المعبد بالسكون لينقلب الى جو الطرب والرقص … هذا المنزل المكون من طابقين وحديقة امامية بعمق عشرة امتار انقلبت فيه الموازين من مقر سياسي الى مقر طرب و رقص .. ومنذ اليوم الاول كنت حذرا كل الحذر من مداهمات الشرطة ونحن متلبسون بالجرم المشهود فعملنا هذا يحاسب عليه القانون عند وشاية احد الجيران . كان عمي هو الاخر حذرا من مداهمات الشرطة وجهاز الامن لضلوعه بالسياسة المخالفة لنهج الدولة آنذاك … فعمل على قطع مؤخرة الغرفة المجاورة لغرفة نومه بقاطع متر في اربع امتار بوساطة عمال من تنظيمه السياسي بحيث اذا ما دخلت الشرطة لا ترى سوى غرفة صغيرة مخصصة لمنام الاطفال , وجعل فتحة مشتركة ما بين ذلك القاطع وغرفة نومه وراح نجار اخر من نفس تنظيمه يحور خزانة الملابس الخشبية المكونة من ستة ابواب فجعل جزء من خلفية الخزانة متحركا الى الجانب ووضعت خلفيتها ملاصقة لتلك الفتحة التي تعلو على سطح الارض بمقدار قدم واحد فقط فاذا ما داهمت الشرطة او منتسبو الامن الدار ذهب عمي مسرعا الى الخزانة ليدخل القاطع الصغير ومن ثم العمل على ترتيب الملابس بعدها يسحب خلفية الخزانة جانبا بينما تذهب زوجته الى غلقها وبذلك يكون في مأمن تام , وكم من مرة فتح رجال الامن تلك الخزانة ليجدوا ملابس مختلفة مرتبة بعضها فوق البعض وبالتالي فشلت محاولاتهم في القبض عليه اذ لا يوجد في الدار سوى زوجته وبنتيه الصغيرتين , وضعت تلك الامور نصب عيني وانا اعيش تلك الحياة نهارات الجمع مع اصدقائي وبنات الهوى , ساعات نهارية حمراء وبالفعل حدث ما تحسبت له في احدى الجمع .. توالت الطرقات على الباب الخارجي للدار مع رنات متعاقبة للجرس وكان انذار طوارئ ما قد حدث , ذهب الجميع الى غرفة منام عمي بسرعة مذهلة ليدخلوا القاطع السري وراح صلاح يلملم ما تبقى من اية اثار نسائية و يقفل الخزانة ويخرج من الغرفة ليجلس في موقع استراحة الدار مبعثرا الملازم الجامعية والدفاتر والكتب وكان امتحان مصيري في الكلية ينتظرنا غدا , العمل نفس العمل مع اختلاف شخوص الحدث والأسباب بالمقارنة مع عمي , وفي تلك اللحظات اخذ فوزي بترتيب الملابس في الخزانة من داخل القاطع ويسحب خلفيتها جانبا بينما ذهبت انا ببطء شديد لفتح الباب الرئيسي لكسب الوقت فاذا تحسباتي تصيب هدفها لأرى نفسي امام مجموعة من رجال الشرطة تدخل الباب الى الحديقة واحد الضباط تسمر في الباب ليبلغني بالأمر القضائي الخاص بتفتيش المنزل , وبسرعة ملحوظة انتشرت الشرطة في جميع ارجاء المنزل ولم يجدوا سوى طالبين بائسين و قد خارت قواهما بالدراسة لأداء امتحان لهم في الكلية يوم غد وهذا ما اباح به صلاح لضابط الشرطة .. تأسف ضابط الشرطة لنا وقال هناك بلاغ من قبل هذا الرجل ( واشار الى احد الاشخاص وهو يقف بجانبه وهو يرتدي ملابس المدنية ) من وجود غانيات في المنزل وان الحالة متكررة لعدة مرات واخرها دخول فتاتين تبدو عليهما ملامح الريبة صباح هذا اليوم ومع ذلك تعال معي الى مركز الشرطة لنأخذ اقوالك ونقفل المحضر بالسرعة الممكنة منعا من التأثير على دراستك فلم ار من بد سوى الامتثال للأمر وتغيير ملابسي واصطحابهم الى مركز شرطة السعودية في العشار وبعد ضبط اقوالي ارسلت الاوراق التحقيقية الى مسكن القاضي للبت بالموضوع وهذا امر طبيعي لان ذلك اليوم كان يوم جمعة وهو عطلة نهاية الاسبوع فيما اثرت في نفس وكيل امر المركز الشفقة على حالي واجلسني في غرفته لحين عودة المأمور من مسكن القاضي بينما اخذ بعض رجال الشرطة يلومون الحاج هاشم خارج غرفة امر المركز في حين هو يؤكد لهم صحة اخباره اذ راى بأم عينيه الغانيات يدخلن الدار , لم اكن اعرف حقيقة الامر من هو الحاج هاشم الا من مجريات التحقيق اذ تبين انه جارنا والقائم بأعمال المراقبة ضدنا وبينما الحديث يدور هنا وهناك رحت اغوص في ما تم تركه في الدار وفزعي من الذي جرى وفي الوقت ذاته عشت لحظات انتصار ونشوة , ساعتان مرت ونحن بانتظار المأمور وكأنها سنتان وهاهي الساعة تشير الى الثانية ظهرا لأرى وكيل آمر المركز يدنو مني ويجلس بجانبي ويبدو انه تاثر جدا بالقضية وتعاطف معي . . جلس بجانبي وهو يهمس لي بانه اذا ما اتخذ القاضي قراره ببراءتي من التهمة ذاتها وهذا ما سيحصل بالتأكيد فبإمكاني القيام برفع دعوى قضائية ضد المشتكي لرد الاعتبار واجبته على الفور اني شاب فقير لا اجيد لغة المحاكم والقوانين واني احترم القانون لا لشي وانما احتراما لنفسي .. اجابني بعد ان اخذ نفسا عميقا من سيجارته بانه سوف يعينني على ذلك .. وجاء الفرج اذ عاد المأمور ليعلن حصول موافقة القاضي بعد اطلاعه على اوراق القضية بإطلاق سراحي بضمان محل الاقامة على ان يعرض ملف القضية صباح اليوم التالي .. ابتسم وكيل امر المركز معربا عن سعادته للأمر وقال لي بانه يتوجب علي الحضور غدا في مقر قاضي تحقيق العشار الكائن مجاور الاعدادية المركزية على نهر العشار الساعة التاسعة صباحا .. شكرت وكيل امر المركز على رقة مشاعره ودماثة أخلاقه وتعاونه معي في الاقل واستودعته الله وعدت الى البيت وانا مثقل ما بين الاعياء والحبور انها المرة الاولى التي اعيش فيها لحظات توازن ما بين المرارة ونشوة الانتصار لقضية واحدة .. استقبلني صلاح وحمد الله على ما جرى بينما بقية الزمرة تنتظرني في غرفة منام عمي على اهبة الاستعداد لأخذ موقع الطوارئ اذا ما حدث طارئ .. ضحك الجميع مستبشرين بالانتصار الرائع الذي حدث وقال فوزي معلقا على الامر .. تصوروا لو أخرجونا كالجرذان من جحورها فكيف سيكون المنظر مضحكا ومؤسفا حزينا .. قلت لهم هذا وذاك لا ينفع و لا يضر انما الامر الان تامين جو مناسب لخروج سحروهوازن من البيت دون جلب انتباه الجيران بعد الذي جرى واتفق الجميع على خروج الفتاتين بحذر مع حلول الظلام بعد التأكد من خلو الشارع وهذا ما حدث بالفعل وفي صباح اليوم التالي وفي تمام العاشرة كنت مع قاضي التحقيق وجها لوجه بعد خروج الحاج هاشم من اداء اقواله والذي لم يستطع ان يثبت بالدليل المادي او المعنوي صحة شكواه .
اسمك ؟ .. عنوانك ؟ .. عمرك ؟ .. مهنتك ؟ .. ما علاقتك بالدار ؟ ولماذا تسكن وحدك ؟ وماذا تقول في البلاغ المقدم ضدك ؟ …
هذه الاسئلة تمت اجابتها بدون سابق تفكير الا ان السؤال الاخير كان اكثر توقعا منذ الليلة السابقة ورحت اشرح للقاضي بما جرى بحبكة ولباقة متوازنة لا تثير ادنى شك في ما اقول وكانت اخر جملة قلتها .. واما سبب البلاغ ضدي فلا اعرف اصلا مسبباته الحقيقية ولا يوجد بيننا اي عداء سابق وما اثار استغرابي رؤيتي للوهلة الاولى كانت مع زمرة الشرطة التي داهمت المنزل ولكن افضل من يجيب على هذا السؤال هو المشتكي نفسه , تم توقيعي على اقوالي واخلاء سبيلي بعد غلق التحقيق لعدم ثبوت الادلة مع احتفاظي بحقي الشخصي بإقامة دعوة مضادة لرد الاعتبار , تنفست الصعداء بينما الحاج هاشم بدا مندهشا مما جرى .
لم اذهب الى الجامعة الوقعة في منطقة التنومة على مسافة 5 كم من الساحل الشرقي لشط العرب ذلك اليوم وعدت الى بيتي ظهرا والسعادة تغمرني من اخمصي قدمي وحتى هامتي مبتهجة بما حدث .
وصلت الدار الساعة الواحدة ظهرا بعد تناولي طعام الغداء في احد المطاعم الشعبية واندهشت من انفتاح شهيتي للطعام بشكل ملفت لنظري , القيت بجسمي على فراشي وذهبت في نوم عميق لأستفيق على رنات الجرس الساعة الخامسة مساءا لأرى والدي امامي عند الباب وقد جاء من قرية السبيليات وهي قرية صغيرة نسكنها تقع في منتصف المسافة بين مركز البصرة وقضاء (ابو الخصيب) جنوبا .. وبعد استفساره عما جرى اجبته بكل ما جرى وما اصابني من حيف ولم يجبني على سؤال لي عن كيفية معرفته بالخبر وتبين من همهماته انه رأى صدق قولي وعندما شرع بالحديث عما سيتخذه ضد المشتكي اذا برنات الجرس تعلو .. استغربت بعد فتح الباب من ان هناك خمسة رجال ومعهم كبش وعدد من الصناديق الكرتونية الصغيرة والمتوسطة تبدو انها عصائر وعطور مختلفة .. نعم انها عربون المودة الجديدة هكذا استقرأت وجوههم , استقبلهم والدي بكلمات الترحاب المعتادة بينما اخذوا بالتأسف لما جرى , انهم ثلاثة من اولاد الحاج هاشم وشقيقان له طالبين اخذ الامور بترو وحكمة وعدم القيام برفع شكوى مضادة .. وبعد الاخذ والرد في الكلام تعالت الضحكات والابتسامات واتسم الحديث بالشهامة والتضحية والايثار .. اعطى خلالها والدي تعهده لهم بما يبغون وخرج الجميع من الدار والكل يبالغ في اخوته ونخوته وشهامته للآخر ورجعت وحدي الى الداخل اتفحص تلك الهدايا سارحا في تفكيري مقررا نبذ هكذا اعمال وهذا ما حصل بالفعل .
مرت ثلاثة اشهر وانا ادعى من قبل الجيران بالشاب المثالي ولم يستطع اصدقائي عن ثنيي عن قراري والعودة الى الايام الحمر , وبعد الحاح طويل سيطر الشيطان على عقلي ونزلت عند رغباتهم واتفقنا على اعادة تلك الايام الحمر اعتبارا من الجمعة اللاحقة وبحذر شديد .
وجاءت الجمعة وجاء صلاح وبعده فوزي وانتظرنا هذه المرة احلاما وايناسا وعلى ما اظن انها اسماء مستعارة .. لقد تأخرتا في المجيئ .. خرجت الى الحديقة وفتحت الباب الخارجي .. انتظرت لحظات لأرى سيارة اجرة تقف وتنزل منها فتاتان جميلتان وعندما همتا بالدخول اذا بالحاج هاشم يخرج من داره وكانه في وضع المراقب لنا .. ابتسمت له وانا اشير الى الفتاتين قائلا.. هل لديك كبش اخر ؟ ودخلنا نحن الثلاثة وكنت مطمئنا من انه قد اتعظ مما اثاره سابقا وهم بالصياح ودعوة الناس لمشاهدة ما يراه .. اخذت حينها بمراقبة الموقف من خلال الفتحات الحاصلة بين الاشجار الكثيفة على سياج الدار وخرج الجيران .. الكل في ابوابهم موجهون انظارهم لذلك الرجل وهم في حيرة من أمره.. خرجت اليهم واقفا في باب داري وأنا أقول .. هذا الرجل ليس غريبا عليكم باتهاماته .. ادخلوا الدار ان شئتم فان رأيتم شيئا مما يقول فلكم الحق فيما تفعلون بي .. وانا استحق ذلك , وان كان العكس فكل شخص يدخل الدار سوف اقاضيه عشائريا ويتحمل تبعات ذلك .. هز الجميع رؤوسهم مستنكرين فعلة ذلك الرجل .. قال احدهم .. يا اخي مالك وما لهذا الرجل ؟ وقال اخر كل يوم اتهامات باطلة ؟.. وقال اخر واخر .. راقبت الموقف عن كثب ولم يكن الحاج هاشم في موقف يحسد عليه .. دخل الجميع دورهم ودخلت انا كذلك بينما الحاج هاشم كان مستمرا في صياحه كان لم يسمعه احد .
سعد عبد الوهاب طه
انتهت