قصة قصيرة: ميسون أسدي
نهض المفتش “جي جي” في الصباح، شرب كأس حليب، ارتدى ملابسه، وضع في فمه علكة وذهب إلى مكتبه، ختم بطاقة العمل، صنع لنفسه غلاية حليب وجلس يتصفح الجرائد واستمر هكذا طوال اليوم يجول بين صفحات جرائده، يحل الكلمات المتقاطعة، يَخرج قليلا بين الحين والآخر ليدخن سيجارة. يصنع غلاية أخرى من الحليب، يستفسر عن القضايا التي وصلت إلى مركز الشرطة خلال اليوم، ولسوء حظه جميع القضايا لا تستحق العمل عليها بجهد ولا تحتاج إلى محقق ذكي لحلها.. فهذا ضرب زوجته وذاك قُبض عليه متلبسًا وهو يسرق من الحانوت وشاب أحرق حاوية النفايات، وذاك اغتصب عجوزًا، وحتى إن كانت قضية مهمة نوعًا ما، يتم تحويلها إلى زملائه القدامى ولا يكلفون بها الجدد أمثاله.
ينهي “جي جي” عمله، يختم بطاقته ويعود إلى البيت ليتفحص صندوق بريده، الذي يبدو وكأنه مشارك في التآمر عليه، ولا يأتيه بأي رسائل جديدة. كانت حياة المفتش “جي جي” رتيبة جدًا ولا يتخللها شيء غير متوقع. كان كل همه أن يحصل تغيير جذري على حياته بالتحاقه في سلك الشرطة، وحلم أن يلتقي بالمجرمين، ويعالج القضايا الشائكة، يحلل ويبحث ويكتشف وينتصر على الأشرار، لكن الرياح لم تأت كما اشتهت سفينته، ولم يطرأ أي تغيير يذكر على برنامجه اليومي، سوى أنه أخذ يداوم يوميًا في مكتبه في مركز الشرطة. وبالمناسبة، “جي جي” ليس اسمه الحقيقي، بل لقب نفسه بهذا الاسم فور قراره بالالتحاق بهذا العمل، وذلك تمشيًا مع أسماء المحققين في الأفلام البوليسية التي أغرم بها.
اليوم الجمعة، عاد المحقق “جي جي” من عمله، فكر بالاستلقاء قليلا حتى يستطيع قضاء سهرته الأسبوعية مع أصدقائه، الذين يجتمعون مساء كل جمعة ويلعبون البوكر. وصل إلى البيت تفحص بريده اليومي: هذه ضريبة تلفزيون وهذه ورقة من البنك، وهذا حساب الهاتف.
قلب الرسائل بسرعة وكأنه يعرف ما تحتويه بمجرد النظر إلى غلافها، إلى أن توقف عند رسالة معينة. تسارعت نبضات قلبه، ألقى بسائر الرسائل على الطاولة القريبة منه. جلس على أريكته المفضلة وأخذ ينظر إلى الرسالة، تحسسها بيده قربها من أنفه، يريد أن يستطلع ما بداخلها قبل أن يفتحها. تردد وأخذ يفكر مثل لاعبي البوكر الذين يتناولون ورقهم عن الطاولة، ثم يفتحون كل ورقة بتؤدة، فمن المعروف أن لاعب البوكر الذي يستطيع فتح ورقه بسرعة، يتباطأ في فتح ورقاته، واحدة تلو الأخرى، حتى يفاجئ نفسه بالأوراق التي بين يديه.
كثيرًا ما تمنى المحقق “جي جي” منذ التحاقه بسلك الشرطة، قسم التحقيقات، بأن تصله رسالة غامضة من مجهول أو من أي إنسان، فتشكل بداية خيط للتحقيق في أمر جسيم، جريمة كبرى: قتل، سرقة أو أي شيء من هذا القبيل، كما شاهد في المسلسلات والأفلام البوليسية.. عندما شاهد تلك الرسالة التي لا تحمل اسم المرسل بل اسمه فقط، كأن خافقه يقول بأن ورقته الرابحة بين يديه أخيرًا.
تقدم صوب ثلاجته. اخرج مشروبه المفضل وسكب كوب حليب بارد. وضع الكوب بجانب الرسالة بعد أن ارتشف منه قليلا. لبس قفازين من المطاط الدقيق، حتى يحافظ على بصمات مرسل الرسالة. وأخذ يفتحها بسكينه الخاص، محافظا على أطرافها، لئلا تتمزق. فتحت أصابعه الورقة ببطء شديد، لا يتناسب مع سرعة خفقان قلبه. ظهرت الكلمات الأولى على رأس السطر الأول، ورغم قسوتها، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجنتيه، واجتاحته فرحة عارمة وقال في نفسه: أخيرا صدق حدسي!!!
**الرسالة
المحقق “جي جي” المحترم
أود أن أخبرك بوقوع جريمة قتل شنعاء، سيقتل رئيس البلدية اليوم بلا رحمة ولا شفقة. سيمُزق الرئيس إربًا إربا. مكان الجريمة في بيته الريفي، حتى يتفادى القاتل مفاجأة شهود لم يحسب لهم حسابا، أو لم ينتبه إليهم.. القاتل ليس كباقي الرجال. يكره الوقوع في الخطأ، ولا يترك شائبة للصدفة.. يحسب كل خطوة يخطوها بعناية ودقة. يخطط كل شيء بعمق ودهاء.. يخطط لهذا القتل منذ سنتين. وسيبقى القاتل حرًا طليقا، وأنت تعرفه جيدا وعن كثب، وقد التقيت به صباحا حين نظفت أسنانك وغسلت وجهك بالماء والصابون.
لا استطيع أن أدلي إليك بمعلومات أخرى. أنا مطارد وفي حالة خطر دائم، وقد أتعرض للقتل إذا علموا بأمري.
اكتشف بحنكتك وذكائك أيها المحقق من هو القاتل؟
***
استغرب المحقق “جي جي” ما ورد في هذه الرسالة، فهو متأكد بأن رئيس البلدية لم يقتل، لو كان هذا قد حدث فعلا، لقلبت الدنيا رأسًا على عقب، واختلط الحابل بالنابل. ستقفل البلدية يومًا من أيامها العادية. نظر “جي جي” إلى ساعته التي قاربت الظهيرة، فأطل من شباكه ليرى المدينة الهادئة وكل شيء فيها يسير كالمعتاد، فها هو موزع الجرائد وبائع البوظة. تعيش المدينة طبيعتها بشوارعها المزدحمة ووفرة فنادقها وعماراتها.. فقال في نفسه: لا بد أنها مزحة من أحد زملائه هدفها الاستهزاء به وجعله هدفًا للسخرية في مكان عمله.
قرر “جي جي” أن ينسى أمر الرسالة، ويتابع رتابة عمله ولكن هاجسًا خفيًا حرك مشاعره، وهو مؤمن لشعوره الباطني بأن وراء هذه الرسالة أمرا ذا جلل. لم يخنه حدسه أبدًا. قفز عن أريكته وسكب لنفسه كوبًا كبيرًا آخر من الحليب، وقرر الاتصال بنفسه برئيس البلدية.
رن الهاتف عدة رنات، فأجابته زوجته وقالت: إنه معتكف في مكتبه كعادته، ويعرف الجميع أنه لا يتلقى مكالمات يوم الجمعة، فطلب أن يتكلم معه لضرورة ما، وحولت المكالمة إليه وما أن رفع رئيس البلدية سماعة الهاتف، حتى سُمع دوي انفجار مزق طبلة إذنه. صرخ المحقق بأعلى صوته ثم عاود الاتصال مرة أخرى فلم يجبه أحد. اتصل بالشرطة وأبلغ بما حدث معه، وطلب من المناوب التوجه إلى البيت الريفي للتحقق من الأمر.
لم تكد تمر فترة وجيزة، والمحقق “جي جي” يحاول استرجاع أنفاسه، وإذ بجرس الباب يرن بشكل متواصل. قفز سريعًا، فتح الباب، فدخلت إليه مجموعة من المحققين. عرف منهم زميله المحقق المناوب “صقر”، وعلى الفور بادره “جي جي” بالسؤال ماذا حصل؟ هل تحققتم من الأمر؟ أجابه “صقر” لقد لقي رئيس البلدية حتفه إثر عبوة ناسفة وضعت له في الهاتف، وعندما رفع السماعة لكي يرد عليك انفجرت العبوة، حدثنا ماذا حصل ولماذا اتصلت به؟
أجاب “جي جي” بتلعثم: وصلتني رسالة تفيد بأن رئيس البلدية سيقتل.. وها هي.
وتوجه “جي جي” بسرعة إلى الطاولة حيث وضع الرسالة، تناولها وأعطاها للمحقق “صقر”.
فحصها المحقق وقرأها وثم تفحص الغلاف وسأله: ألا تعرف أي شيء عن مصدر هذه الرسالة؟
فأجابه وهو في حالة ذهول: لا كانت بين رسائلي في صندوق البريد ولكن يبدو أن القاتل كان يعرف بأني سأتصل للتأكد من صحتها، ويحدث ما حدث!
فقال له المناوب صقر: حسنا لا تغادر البيت اليوم، فقد نحتاجك خلال التحقيق..
خرج المحقق وأفراد الشرطة من بيت “جي جي” تاركينه في حيرة كبيرة. شعر “جي جي” بأن عقله توقف عن العمل، ولم يعد يستطيع التفكير أو التحليل. عاد إلى رسائله التي كانت في صندوق بريده وفتح رسالة تلو الأخرى، مع أنه كان يعرف جيدا ما تحتويه كل رسالة، رفع سماعة هاتفه عدة مرات وأعادها إلى مكانها، لا يدري بمن يتصل لكي يستقي معلومات إضافية. إنه وحده داخل دائرة مغلقة لم يعرف الخروج منها. نظر إلى هاتفه عدة مرات منتظرا أن يسمع رنينه في كل لحظة، لكن الدقائق كانت تمر ببطء ولا يدري ماذا يفعل. اتصل أخيرًا بزميله المناوب ” صقر” وسأله عن مجرى التحقيق، فأجابه المناوب: لا تقلق، نحن نستعرض الأسماء التي تستفيد من قتل الرئيس، وفريق آخر من المحققين في بيته مع زوجته، يحققون ويتفحصون البصمات والآثار لعلهم يتوصلون إلى الذي وضع العبوة..
قال “جي جي” بتلهف: هل تريد أن آتي وأساعدكم في التحقيق؟
– لا حاجة لك الآن، فقط لا تغادر البيت، فقد نحتاجك في وقت لاحق. استرح قليلا وكن قريبا من الهاتف.
أقفل “جي جي” الهاتف وقال لنفسه: التوتر لن يجدي نفعًا، يجب أن أسترخي وأعطي نفسي قليلا من الراحة حتى أستطيع التفكير جيدا. شرب كأس الحليب الذي كاد ينساه على الطاولة، جذب الهاتف ووضعه قريبا من أريكته، ثم خلع حذاءه واستلقى وأغمض عينيه، اتجهت جميع حواسه نحو الهاتف. في البداية، لم يستطع الاسترخاء، ورويدا رويدا بدأ التوتر يزول عنه وتثقل أجفانه، وداهمته أفكار عديدة على شكل أحلام سريعة حتى غط في النوم نهائيا.
لم يعرف كم مضى من الوقت عندما استيقظ على رنين الهاتف اللحوح. التقط السماعة بسرعة وإذ بصديقه حسن الذي يعمل في قسم المخدرات على الجانب الأخر من الهاتف يقول له: أين أنت يا “جي جي” اجتمعنا كلنا ونحن بانتظارك.
فقال له “جي جي” ماذا حصل هل توصلتم إلى شيء؟
فأجاب حسن: ضاحكا توصلنا إلى أنك تأخرت كثيرا وسنبدأ لعبة البوكر بدونك.. هل ستأتي أم لا؟
أجاب “جي جي” بتلعثم: أي بوكر وأي لعب؟!! ماذا حصل بالنسبة لجريمة قتل رئيس البلدية؟
حسن: لم أسمع الأخبار.. في أي مدينة حصل ذلك؟
“جي جي”: قل لي من معك من زملائنا؟
حسن: الجميع هنا ومن كافة الأقسام ولا أحد منهم يبالي بما يحصل خارج المدينة.
“جي جي”: ألم تقع أي حادثة في مدينتنا هنا؟
حسن: كفى يا “جي جي”.. هل تريد أن تأتي أم لا؟
“جي جي”: سؤال أخير.. من المناوب الليلة بمخفر الشرطة قل لي؟
حسن: صقر، وقد انتهت ورديته قبل نصف ساعة، وهو معنا. حل مكانه “الدبس”.. ماذا تريد أن تعرف أيضا؟ سنلعب بدونك..
“جي جي”: حسنا، حسنا سآتي على الفور..
ارتدى “جي جي” ملابسه بسرعة، وفيما هو منطلق بسيارته في الطريق سمع مذيع الأخبار من الإذاعة المحلية يقول: خبر عاجل، فقد تم اغتيال رئيس البلدية في المدينة المجاورة، وقد تم ذلك بوضع عبوة ناسفة في هاتفه. وفي حديث مع زميله رئيس بلديتنا قال: إن رئيس البلدية القتيل كان صديقه العزيز، ولم يكن له أعداء. وإن السلطات باشرت بالتحقيق منذ وقوع الحادث. وكما يبدو، فإن أحد محققي الشرطة مشتبه بوضع العبوة الناسفة، وقد تم اعتقاله للتحقيق معه في ملابسات الحادث..
(حيفا)