وصلت بحقيبة مليئة-فارغة ، فيها جوربان و قميصان و ملابس نوم، سأشتري فرشاة الأسنان و الشامبو و الصابون وكل شيء تقريبا . حقائبنا كحواراتنا فيها كل شيء ولا شيء.
حقيبتي الصغيرة السوداء مليئة بروايات محمد شكري، وروايات جرجي زيدان التاريخية، وفيها كتاب عن السياسة والإصلاح والثورة وما لن يتم.
أنا الآن بمقهى قرطبة أرتشف قهوة المساء وأستمع للموسيقى، موسيقى المقهى شرقية رديئة . اختلطت في أنفي رائحة ‘الريف دور’ ورائحة القهوة ورائحة ‘شواية سردين’ تأتي من الإتجاه المعاكس للمقهى . سأتصفح جريدة “الأخبار” وأركن بعدها إلى مكان هادئ في المقهى لأقرأ بعضا من زمن الأخطاء لشكري–لماذا لا تزورون الأحياء بنفس الورود التي تزورون بها الموتى، هذا ما بقي في ذاكرتي من آخر قراءة .
وصلت المدينة حوالي الواحدة زوالا فوجدتها خاوية عن عروشها، يخيل إلي أن الناس هاجروا جماعة إلى القرى المجاورة. الأمازيغي حُرّ، كما البدوي ، لا يرتاح إلا لشجر الزيتون والرمان واللوز ولعبير الربى وعطر الجدة الفواح.
إنه ثالت أيام العيد، الشوارع فارغة إلا من قطط ضالة وكلاب تحوم بقرب شواية الجنوب. قيل أن سكان المدينة ليليون . الأعياد عندنا جميلة لكنها تلغي كل شيء ، ولو قدم المدينة زائر يوم العيد لحسب أنه يوم البعث ولبات في العراء، اختفى الباعة والحرفيون ولم يتبقى سوى المخزنيين، يراقبون كل صغيرة وكبيرة. إفني مدينة صغيرة بيضاء جميلة يرقبها البحر وترقبها أعينهم بالغداة والعشي ولو تركوها بدون مراقبة قرنا من الزمن لوجدوها كما هي. سكان إفني ودودون جدا وبسطاء ولا يحبون الرقابة والبطش.
في صباح اليوم الثالث أفطرت ‘بالمحلبة’ المحادية لمدخل السوق. هناك بمدخل الباب المزركش الكبير يقف رجل طويل القامة بلحية كثة يبيع خبز الصباح الساخن، يرتدي نعلا أسود ومعه جوارب سوداء ظاهرة، و فوقية بيضاء قصيرة ومن فوقها معطف أحسبه محلي الصنع، لكنه أوروبي الذوق.
مدن المغرب جميلة، يلتقي في جنبات أزقتها الماضي و الحاضر . هذه المدن تأبى الإنغلاق لأن أهلها يعلمون أن انغلاقهم على أنفسهم غالبا ما يعجِّل بحاجتهم إلى غيرهم . المجنون وحده ينغلق على نفسه .
أرتشفت آخر كأس شاي وابتسمت لرؤية زوجين حديثي العهد بالزواج و رحت إلى شأن أقضيه.