من مجموعتي القصصية (نون)
قصة قصيرة
“أربعةُ آلاف وأربعة أرباع”
بجسده الضئيل وأعوامه الأربعة عشر نشر عبد الله ذراعيه للصباح طلبا للرزق مع أول شعاع للشمس غازل وجه الأرض في تلك البقعة التي حطّت فيها عائلته رحالها ، وما تبقى من رجالها بعد نكبة النزوح القسري الذي فرضه أمراء الحرب ، من أرض خضراء ممرعة إلى مكان تشحن الغربة فيها مواجعها ، ويستظل الإحساس بالفقد كيانها… يبابٌ يزعق كل حين مُذَكّرا بِضِيق الأرض التي لم تلد أبناءها رغم اتساعها…
ألقى عبدالله أدوات عمله على الأرض ، وشرع يُهيئ نفسه بطاقةِ تحفيزٍ داخليةٍ للتعاطي مع عمل هذا اليوم الذي لا يُشبه عمل يوم أمس ، ولا يتوقع في الأرجح أنّه سيكون مشابها لعمل يوم غدٍ إنْ قدّر له أنْ يعمل…
هكذا هو حال الأجير الذي يعمل بقوت يومه مستثمرا طاقة عضلاته التي منحتها له سنواته الغضّة مع البنائين في البناء ، ومع عمال المجاري في الحفر ، ومع العَتّالين لِإنزال البضاعة من الشاحنات في الأسواق ، أو أيّة أعمال أخرى تُعرض عليه ، أو يسعى لها بقدميه طالبًا للرزق…
العمل الذي بين يديه يتطلب جهداً بدنياً كبيراً لكنّه لن يحتاج لانجازه سوى سويعات قليلة ، ولذلك قَبِلَ أنّ يكون أجره بسيطا وبما يتناسب مع الوقت الذي يستغرقه في أتمامه… إنّه بأمَسّ الحاجة لكل دينارٍ يحصل عليه ليُنفقه على عائلته المكَونة من والدتهِ المريضة واخوته الصغار ؛ أمّا والده فلم يبق منه سوى بطاقته الشخصية المُصورة…
كانت ضريبة الانتماء للأرض والولاء للأشجار تعني في عقيدة أمراء الحرب تذكير مباشر بجذورهم المقطوعة عن تلك الأرض ولصوصيتهم التي تبيح لهم انتهاك وأزاحة كل من له جذر ثابت ، وعِرق ٌ نابت ؛ ولذلك غيبوا والده وقطعوه عن عائلته وهذا يعني أنّه سوف لن يعود مرّة اخرى… هو لن يعود حتى جسدا مُسجى .
بعد أن نقده ربّ العمل أربعة الآف مع أربعة أرباع أخرى فاستوفى أجرة عمله لذلك اليوم ، بدا له المبلغ كبيرا ويستحق التعب والجهد ويغطي احتياجات عائلته لذلك اليوم بتقديره البسيط
خمسة الآف دينار مع تكبيرة مئذنة المسجد لصلاة الظهر تعني أنّ الطعام في طريقه إلى مأوى العائلة في الغرفتين المتهالكتين ..
الطريق بين مكان العمل والمسجد لا يتعدّى عشرات الأمتار ، وفي تلك المسافة تحسس مكان النقود ليستشعر شيئا من لذة الكسب الحلال ؛ لكنّه تفاجأ أنّ الأوراق النقدية لم تكن في مكانها… مرر يديه في جيوبه على عجل كيما يستعيد الأطمئنان الذي ارتبك عنده في تلك اللحظات…
لم يجد أثرا للخمسة الآف دينار في جيوبه.
عجباً… فكّر مع نفسه بانّ المسافة التي قطعها باتجاه المسجد كانت قريبة جدا…
أين ذهبت الأوراق النقدية?
جميع محاولاته للعثور عليها باءت بالفشل وتبخر ذلك العرف الطيب الذي تنسم عطره في مخايل ذاكرته ممنيا نفسه بحمل قوت عائلته لذلك اليوم…
لابأس ، تذكر أنّ مقسم الأرزاق قدر عليه رزقه فحمد الله متوجها للمسجد لِأداء الصلاة
في تلك الاثناء بدأ يتحسس شيئاً يحتك بساقه فتوقف ليرفع بنطاله قليلا ويتعرف على مصدر الاحتكاك فرأى ورقتين نقديتين تقتربان من قدمه… كانت فرحته كبيرة للحد الذي حفزّه للرجوع على نفس الطريق الذي جاء منه ليجد بعد عدة خطوات ورقتين اخريتين فعاد مرة أخرى ليلحق بالصلاة ، وعند باب المسجد استوقفه حارس المسجد الذي كان يراقب حركته وبحثه عن شيء يفتقده…
هذا ما وجدته من النقود أهو ما تبحث عنه?
أجابه بفرح شديد:
نعم نعم…
أخذ ما تبقى من المبلغ وتوجه به الى صندوق التبرعات في المسجد ليضعه فيه
في تلك اللحظة صاح به رجل قريب منه:
يا عبد الله
هيئ نفسك للعمل عندي ليوم غد إن شاء الله…
رفع رأسه للسماء…كانت عيناه اللتان اغرورقتا بالدموع هما من تسبحان بحمد خالق كل شيء ومليكه.
“أربعةُ آلاف وأربعة أرباع”
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا