مررت من باب دكالة أقطع الأزقة الضيقة البديعة الواحدة تلو الآخرى . الألوان البهية تملأ المكان، الاثواب المزركشة تطل من داخل الأبواب العتيقة المقوسة . نسيم الصيف العليل و رائحة النعناع وخبز الصباح نسجت جوا عذبا بهيا . أهل الصويرة بشوشون وبسطاء . لكن لست ادري لماذا اختاروا بناء محلات ضيقة هكذا كالقبور!
السياح يملؤون المكان . يظهر بعض البؤس على محياهم ، سقطت بعض الدراهم من سائح اجنبي فتلقفها كما يتلقف الجوعى فتات الطعام من مرتادي المطاعم المجاورة . ذكرني هذا بشجع “اوجيني كراندي” الذي كان يعد حبات السكر قبل ان يمدها لزوجته . بقربي يجلس سائح آخر يحتسي كأس قهوة ، أكمله ودفع الفاتورة وهمَّ بالخروج و لم يكلِّف نفسه إعطاء الاكرامية للنادل . إنتظرها النادل بشغف. لقد حرمه حلاوتين ، حلاوة الالفة و حلاوة الإكرامية . قرب الفندق في الساحة المجاورة أهدى سائح قلما وكولونيا لطفل فقفز من شدة الفرح فصفع صديقه عن غير قصد . إنه القهر والحرمان أو ربما فرح زائد عن الحد . “لا تأخد شيئا من احد لا تعرفه” تقول جدتي .
في كل زقاق اصوات كثيرة مختلطة، هنا تسمع الموسيقى قادمة من داخل البازارات والساحة الكبيرة، وهناك اصوات باعة الحلوى و من فوق تسمع نعيق طيور النورس . زرقة السماء و اتساعها بإتساع سعادة المغاربة و بؤسهم ، لا حد و لا نهاية .
أنا قرب كازا فيرا , أرقب طيور النورس ووجوه المارة . أهل الصويرة اكثر عملا و اقل عبوسا أو ربما هي روح الصيف . في هذه المدينة يلتقي الشرق والغرب. على جنبات المقاهي وفي الساحات يجلس الشاب الغربي إلى المغربي، يجمعهم حب الموسيقى والبحر . المغاربة عالميون . لغات عديدة وابتسامات لا عدد لها و حب للحياة عجيب . جشع السياسين وحده يعكِّر ودَّ الشعوب . يحتكر الغربيون العلم والرفاه ويرسلون لنا فقراءهم وأسلحتهم التقليدية الفتاكة .
ضجيج المارة و صوت الأمواج الآتية من خلف الأصوار العاليَّة، وأهازيج الشباب يداعبون القيثارة ولوحات فنية هنا وهناك ، هذه هي الصويرة في الصيف. يلتقط السياح الصور مع كل شيء تقريبا ، ويعجبون بكل شيء أوَّل وهلة . الغريب جميل في آخر المطاف، أليس كذالك؟ لولا جمال الشرق وبخوره ونفائسه لما قدِموا اليه . سيعدون بها الى الدِّيار ليخبروا أهلهم أن الشَّرق تماما كما وصفه فلوبيغ و دولاكغوا . إن كرم الشَّرقي في نظر الأروبي غالبا غباء وقلة تنظيم . “كيف تبنون صالونات مزركشة وتنامون هكذا ملتصقين كحبات السردين في غرف ضيقة!” يتساءل السائح . انه الانسان المادي اللذي لا يرى ابعد من أنفه .
جلست في المقهى المجاور . اقرأ خان الخليلي لمحفوظ . يقول السارد ان الشيطان سبب فقد أبيه العمل، وهو الذي حضَّه على تعلم السِّحر، وأن أمه تتوهَّم ان عليها أسيادا. أقول في نفسي: ها نحن نقرأ وها هم كتابنا يكتبون. وماذا بعد؟ أسياد وشياطين ! أزمتنا ثقافية في آخر المطاف .
بقربي تجلس عائلة في عطلة. الزوجان في مقتبل العمر . الزوج ممتعض من كل شيء ولا شيء. معهما كهلان بشوشان يرتشفان عصير الليمون البارد . طفلهما صغير مشاكس. لقد أدمى أبويه من كثرت الصراخ ، صفعته أمه ودفعته بشدة ليجلس على الكرس المقابل. بكى الطفل حتى ظننت انه سيغمى عليه . نهرته وصفعته مرة أخرى وبشدة عجيبة وأمرته بالسكوت. صمت الطفل. أحسب ان هذه وحدها تكفيه ليعيش معقدا طوال حياته–ستأتي عليه أيام ربما لن يصلح معها الدهر ما أفسده العطَّار .
في صخب مدن المغرب وفي شخصوصها تختبئ أشياء بديعة . أقول في نفسي و أنا أستمع الى موسيقى المساء؛ قد يكون الجمال أفقا أرحب من العقل في أحيان كثيرة، لأن في حضور الجمال ينحبس التفكير ويتولد الشغف . في ضجيج هذه المدن وروائحها و بخورها يستولي علي ما لا أفهمه إلا بالإنصهار و الصمت. أنا من هنا، من هذا الزقاق المكتظ، من هذا الحي المنكوب. أنا من هذه الأمكنة حيث يمتزج القبح و الجمال، لكنها وحدها تحتويني كل الإحتواء و تمدني بسبل العيش .
إرتشفت قهوتي وذهبت بنظري إلى المدى البعيد ثم حملت كتابي وانصرفت .