حرب جميلة وشداد
نبيل عودة
لم يكن من السهل مواجهة السيدة جميلة، فهي تتصرف كناظر أخلاقي على أبناء الحي، المشكلة أن نساء الحارة والحارات المجاورة سُحروا بشخصيتها وسعة اطلاعها، فاجأتهم بكثرة معلوماتها، جرأتها، شدّهم حديثها حتى أدمنوا عليه، لدرجة أن جلساتها في البيوت صارت أشبه باجتماعات لنساء الحي. بل يمكن القول إنها فرضت سيطرة نفسية من الصعب تعليلها، صارت أقوالها أشبه بالأمثال الشعبية التي تكثر نساء الحارة من ملائمتها لكل ظرف وظرف واليوم أضيفت للأمثال صيغة: “كما قالت السيدة جميلة”.
حتى شيخ الحارة لم يصل بتأثيره ونفوذه على العقول إلى ما وصلت إليه السيدة جميلة في المقدرة على التأثير المباشر وغير المباشر على النساء، وكما يبدو أيضا، على بعض الرجال عن طريق تعبئة زوجاتهم بالنصائح والإرشادات التي تحولت في معظم البيوت إلى قوانين لا يجوز كسرها، لكن الحق يقال إن مشاكل الزوجات مع أزواجهن انخفضت. من هنا تغاضى الرجال عن ظاهرة جميلة التي أقلقتهم في البداية خوفا من سيرة مجهولة لهذه المرأة قبل أن تصبح من سكان الحارة ووجوهها المعروفة.
السيدة جميلة جاءت إلى الحي بعد ان ترمّلت كما روت حكايتها للنساء، لم يكن عندها أبناء بسبب عقر زوجها وليس عقرها هي كما تقول كلما روت حكايتها مؤكدة على ذلك بشكل بارز مجيلة نظرها في النساء حولها لمراقبة أية محاولة للشك في كلامها. تواصل قولها انها أخلصت لزوجها حتى يومه الأخير وتواصل إخلاصها له حتى بعد الممات: “الزوج أهم من الأولاد”، كما تقرر بصوت قوي وكأنها قائد عسكري يصدر أمره للجنود بالهجوم.
شيخ الحارة لاحظ، مثل بقية أبناء الحارة، انتشار نفوذ السيدة جميلة، بل ونصائحها وإرشاداتها التي سمّاها بعض الشباب “فتاوى جميلة” مستغلّين اسم جميلة بمعنييه، اسما وصفة، بتذمّر واضح من تعسّف نصائحها وشدة تأثيرها على أهلهم، الأمر الذي انعكس سلبا على حرياتهم الشخصية.
ذهبت كل محاولات شيخ الحارة للحدّ من تأثير فتاويها او “بدعها” حسب لسان الشيخ، أدراج الرياح، استغفر ربه ومنع نفسه من مواجهة السيدة جميلة بقوله: “انها امرأة” وأكثر من ترديد حديث للرسول يقول فيه: “الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون. فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء فإن أوَّلَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء”.
كثيرا ما ردّد في خطبة الجمعة هذه الحكاية: “خرج رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أضحَى أو فطر (أي في عيد الأضحى أو عيد الفطر) إلى المصَلَّى، فمَرَّ على النّساء، فقال: يا معشرَ النّساء، تَصَدَّقْنَ فإنّي رأيتُكُنَّ أكْثَر أهل النَّار. قُلْنَ: وبِمَ يا رسولَ الله؟! قال: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِير، ما رأيتُ مِن ناقصات عَقْلٍ ودِين أذْهَبَ لِلُبّ الرَّجُل الحازم من إحداكُنَّ! قُلْنَ: ومَا نُقْصَان دِيننَا وعَقْلِنَا يا رسولَ الله؟ قال: أليسَ شهادة المرأة مثل نِصْف شهادة الرَّجُل؟ قُلْنَ: بَلَى، قال: فذلك من نُقْصان عَقْلِها، أليسَ إذا حاضتْ لَمْ تُصَلّ ولَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قال: فذلكَ من نُقْصان دِينها.“.
ورغم ذلك، لم ينجح بإضعاف سطوتها وامتداد نفوذها، فاعتكف في مسجده حابسا غضبه، حائرا في ما يجوز ان يقوله وما لا يجوز.
الحق يقال أنها نجحت بإثبات سيرة مستقيمة كالمسطرة. رفضت كل عروض الزواج، لأنها لن تخون حبها الأول والخير، الذي اختاره ربها إلى جواره. قالت إنها تركت بيتا كبيرا وجاءت إلى هذه الشقة المتواضعة هربا من ضغط الأهل وإصرارهم على تزويجها ثانية.
البعض يقول أن أسمها ليس السيدة جميلة، وانها قد تكون تحمل اسما آخر استبدلته هربا من الملاحقة التي من الصعب معرفة أسبابها، والخوف إن ورعها الظاهر قد يكون تغطية لما هو أدهى وأمرّ. هذه الشكوك حرّكها الشباب الذين ضاق خلقهم من القيود التي تروّجها بين أهاليهم، لضبط تصرفاتهم وفرض الرقابة الشديدة عليهم. لكن ما قاله الشباب من أسباب للحذر تلاشت بسرعة، أضحت السيدة جميلة ضيفة محترمة مرغوبة في كل البيوت، لا توفر نصائحها لإدارة بيت وتربية أبناء: “حسب الأصول السليمة” كما تقول وضرورة : “ضبط أخلاقي لتصرف الأبناء”، كلمة الضبط هذه لم تفهمها نساء الحارة، ففسرتها جميلة بالتشديد على السيرة الحسنة، الابتعاد عن المغريات المدمِّرة، عدم الانجرار وراء الحماقات، الالتزام بثوابت الدين في الصلاة والصوم، ان لا يغرَّر بالنساء من مظهر الحملان الذي يبدو على الأزواج، لأن الشوارع مليئة بالمغريات وعلى أم البيت ضمان عدم سقوط رجلها بما يبدو له صيدا عابرا وفريسة دسمة، إذ لا يعلم إلا الله وحده ماذا تخبّئ الحياة من مغريات ومفاجآت.
شرحت للنساء ما تراه صالحا لإبقاء الرجل أسيرا لفراش زوجته، هذه أكسبت السيدة جميلة مكانة لا تهتزّ في قلوب نساء الحارة. صار “حديث فراش الزوجة”، كما اشتهر، ضمن الأسرار التي يتبادلنها النساء بسعادة وضحكات وتورُّد يصبغ الوجوه بلون الحياة.
في يوم تسوق السيدة جميلة، الذي يقع عادة أيام الخميس من كل أسبوع، كانت تلاحظ أن سيارة ابن الحارة شداد الفارع، الشوفروليت السوداء المميزة ربما في البلدة كلها، بحيث من المستحيل أن يخطئ شخص في معرفة صاحبها، تقف بجانب مقصف للخمر… شدّاد الفارع عازب في الخامسة والأربعين، كان قد تقدم قبل سنة بطلب يدها ورفضته، إذ لا رغبة لها برجل آخر غير زوجها المتوفي، كانت سيارته المميزة تقف دوما قرب المقصف الذي يقدم لزبائنه المحرمات مثل الكحول وربما أيضا تباع السموم في هذا المقصف ذي السمعة السيئة.
شكرت الله في سرِّها على قرارها بعدم قبول عرض الزواج من شداد الفارع، وجود سيارته قرب مقصف الكحول جعلها تتأكد أن حكمها على شداد كان صحيحا وأن الله يحمي الصادقين في الإيمان من شرور الزمان ومكائد الرجال، وتبين لها فيما بعد أن شدّاد الفارع لا يصلّي ولا يصوم وانه يشتغل بالأحزاب التي حرّمها الله، بل وهناك شهادات ضدّه تقول انه يرفع علم الكفار الأحمر في المظاهرات. شكرت ربّها على قرارها برفضه، رغم أنها ترددت، لرغبة باقية في نفسها ولكن لا أحد يعلم عن ترددها شيئا.
الموضوع لم يتوقف على يوم خميس واحد، فقد تردّدت مرات كثيرة على نفس الشارع حيث المقصف بمحرماته للتأكد ان “الشوفروليت” السوداء نقف بجوار المقصف، او “خمارة الكفار” كما تسميها، وجاءت في أيام أخرى غير أيام الخميس أيضا لتتأكد من شكوكها.
كانت دائما تشاهد سيارة شدّاد الفارع في مكان قرب المقصف، مما يعني الإثبات المؤكد على ضلاله، وشربه المحرمات وابتعاده عن السيرة الحسنة، رغم أن نساء الحارة يظنون انه مستقيم في سيرته وتصرفاته لا غبار عليها: “انه الشيطان” قالت لهن: “يرشده إلى الضلال والتضليل” وأضافت: “لو كان رجلا صالحا لتزوج وهو في العشرينات”. إحدى قريباته لم يعجبها هذا الحديث وردت: “انه متزوج من القضية” وانه: “لا يجد وقتا لنفسه، ومن الحرام اتّهامه بتناول المحرمات نتيجة ركون السيارة قرب المقصف”. لكن صوت السيدة جميلة كان الأقوى والأكثر نفاذا.
“احذروا على أزواجكن، الثمرة الفاسدة إذا لم تبعد من السلة تصيب كل الثمار بالفساد”.
كانت السيدة جميلة متأكد أن شداد الفارع يعاقر الخمر وربما: “محرمات أخرى، كالسموم مثلا، او ربما، سامحنا الله، الدعارة”، كما أكدت لنفسها. لكنها لا تستطيع أن تأخذ التهم الأخرى على ذِمّتها. “وقوف السيارة” قالت: “هو إثبات لا يفسر على وجهين انه يعاقر الخمر”. وشدّدت عليهن: “ابعدوا أزواجكن عن الخطر الداهم”.
هذا الموضوع لم ينزل عن بساط البحث في أحاديث السيدة جميلة، حتى صار موضوعها المفضل. لدرجة يبدو كأنه التبرير الواضح لرفضها الزواج به. إذ أن الحديث تكاثر بلومها على رفضها أحسن رجل في الحي كما قالت قريبته مرة. ها هو أحسن رجل ينفضح وتبان زلاته التي ترسل أعتى الجبابرة إلى النار بدون سؤال وجواب من رب العالمين.
صحيح أن الجماعة التي كانت تسامر شداد قد تقلص عددها كثيرا، بل أصبح بعض الرجال يتوجّسون أن تعرف نسائهم أين يقضون سهراتهم، وشعروا بالضيق من السيدة جميلة، احتاروا في تأكيد أو نفي تهمها. إن شداد الفارع هو نجم الحارة والناطق بلسانها في المصاعب والمشاكل مع البلدية ومع الوزارات، هو يصيغ رسائلهم إلى المؤسسات وينصحهم بطرق المواجهة وما هو القول الصحيح والنهج القانوني، لم يلحظوا عليه يوما انه متعتع من السكر، صحيح انه لا يلتزم بفروض الدين، لكن سيرته منذ عرفوه شابا يافعا وحتى اليوم كانت بيضاء ناصعة كالثلج. لا يذكر أحد من أهل الحارة أن شداد يدخل ليشرب في المقصف. بل مكان عمله قريب من المقصف، البلدة تعاني من ازدحام مروري وقلة مواقف، فهل من الجريمة إيقاف السيارة قرب المقصف أو أي مكان آخر؟ هل مكان إيقاف السيارة يعني أن صاحبها له وطر أو يتحمل مسؤولية ما يدور في داخل المبنى الذي أوقف سيارته بقربه؟
كل هذا الدفاع لم يخترق الهجوم الكاسح للسيدة جميلة، القناعة ضد شداد تسرّبت لعقول النساء، بحيث صار اسم شداد أشبه بالشتيمة التي يستغفرون الله بعد ذكر اسمه ويتُفّون على الشيطان إذا ذكر اسمه أمامهم.
السيد شداد وصله الحديث ولم يبدُ عليه القلق، بل تبسّم “مغلوبا على أمره” كما قيل عنه. لم يعلق بشيء رغم كثرة ترديد حديث السيدة جميلة بخصوصه، خاصة ما نقلته قريبته، فرد ضاحكا: “الله يسامحها”. بعض الرجال لم يعجبهم تحريض زوجاتهم من السيدة جميلة على شداد الفارع، الذي لولاه لكانت الحارة لا تصلح للعيش وقالوا: “هل إذا أوقفنا سياراتنا قرب المقصف نصبح من زبائن الخمر؟” بل وقال أحدهم: “هذه المرأة المحترمة فقدت تفكيرها السليم”، فكاد يقع الطلاق بينه وبين زوجته، لولا مساعي السيدة جميلة الحميدة، التي أقنعت الزوجة بان لا توتر الجو مع زوجها بسبب شخص ضال: “لم تنكشف حقيقته لزوجها بعد”.. ونصحت الزوجة: “ليقل ما يشاء عني انا اسامحه واترك حسابه لرب العالمين، هذا لن يغير من الحقيقة، سرعان ما سيتغير زوجك ويفهم انه أخطا في حكمه”. كانت دائما تضيف:” يا ما تحت السواهي دواهي”.
شداد شعر أن الحارة تنقلب ضده، ضايقه الأمر، لكنه كان واثقا أنها ظاهرة عابرة. قال مبتسما لمحدثيه: “حقا حيث تركن سيارتك، تركن جسدك، انه منطق، يجب أن نستغله”
ترى ماذا كان يقصد؟ عبثا حاول المقربين منه فهم نواياه، فكان يضحك ويقول: “إن غدا لناظره قريب، لست قلقا من السيدة جميلة، ليباركها الله”.
في صباح أحد الأيام، استيقظت الحارة على مفاجأة عظيمة، اشبه بالتسونامي في قوة مفاجأتها، أيقظ المبكرون في الاستيقاظ النائمين، دار اللغط والحديث، بصبصت العيون، ارتسمت الضحكات، اشتغلت حتى العقول الخاملة، تلاسنت النساء، بين فاهمات وغير فاهمات، انتشرت وشوشات ضاحكة وتأويلات كثيرة، تساءل البعض بخباثة: “ترى هل وقع المحظور؟”.
كانت السيدة جميلة تشرب قهوتها على بلكون بيتها ولا تدري ما يدور حولها، لكنها شعرت أن النظرات نحوها شديدة الحدة، الأمر لم يقلقها فاليوم اخو الأمس وغدا اخو اليوم.
المفاجأة التي استيقظت الحارة عليها ان سيارة السيد شداد الفارع واقفة بلصق بيت السيدة جميلة، بل امام مدخل البيت، تساءلت العيون بصمت وخبث: “ترى هل قضى ليلته في فراشها”؟!