قصة
مشاعر بقدمَين
***********
في أحد الأماكن الثقافيّة التقيتُها، فتاة في الثلاثين من العمر، تجلس بجواري في مناسبة توقيع روايةٍ لأحد الكتّاب.
تبادلنا بعض الكلمات بخصوص الرّواية ثم اشترت كل منّا واحدة موقّعة من الكاتب وهممتُ بالذهاب مودّعةً إياها متمنيةً لها ولي قراءةً ممتعةً، فاستوقفتني وعرضتْ أن نشرب شيئاً في مقهى المكان، وافقتُها بسرورٍ، فقد كنتُ بحاجةٍ لفنجان قهوة ورفقة.
المقهى هادئٌ وحميميٌّ يغريك بقراءة كتابٍ كاملٍ بجلسةٍ واحدة وثَمَّ صوتُ أغنيةٍ خافتٍ هادئ، تكاد لا تفهم كلماتها ولكنه كافٍ لإشعارك بالراحة بدون أن يقطع عليكَ أفكارك.
اختارتْ إحدى الطاولات بإصرارٍ غريبٍ وطلبَتْ عصيراً طازجاً في حين طلبتُ لنفسي فنجان قهوة.
لاحظتُها تنظر باستمرار لإحدى الطاولات أمامها وفجأةً شهقَتْ وقفزَتْ بحركةٍ أرعبتني، فسارعتُ بسؤالها: ما بكِ؟ ماذا حصل؟
فأومأتْ بعينيها لتلك الطاولة أمامها وطلبتْ مني ألا ألتفت فيتنبّه لنا.
سألتها: من هو؟
أجابت: الشاعر الذي أحبّه
ثم اعترفَتْ أنها لم تأتِ إلى هنا إلا لأنها تعلم أن هذا الشاعر سيكون حاضراً وأسَرَّتْ لي ضاحكة: لقد دفعتُ ثمن روايةٍ لن أقرأها لألتقي بشاعرٍ لا يعرف عني شيئاً.
ثم شهَقَت مرة أخرى، فكدتُّ ألقي بالقهوة فوق الرواية، ثم ضحكتُ وقلتُ لها: مسكينةٌ تلك الرواية، فالتي معكِ لن تقرئيها والتي معي قد تغتسلُ أوراقها بالقهوة لأجل شاعرٍ لم أرهُ حتى الآن.
فسارعتْ بالقول: التفتي بسرعة إنه منشغل، لن يلحظ شيئاً.
فقلتُ: كفاكِ يا بنت، فضحتِنا بشاعرك.
أجابت: لو رأيتهِ لما قلتِ ذلك، إنه رائعٌ ووسيمٌ وفي مقتبل عمره ثم أضافت بنظراتٍ حالمة: هو كتلة مشاعر تمشي على قدمين!
فالتفتُّ بنظرةٍ سريعةٍ وأنا أتذرّعُ بتعليق حقيبتي على ظهر كرسيي، فرأيتُ شاباً يجلس إلى جانب فتاة ملاصقاً لها.
قلت لها: أهذا هو شاعرك؟
أجابت بحماس: نعم هو شاعري الجميل
– وهل هذه زوجته؟
– لا ليس متزوجاً، حتماً إحدى معجباته، ألم أقل لكِ: كتلة مشاعر بقدمين؟
– مشاعر بقدمين؟ وهل مشاعره تلك يوزّعها على كل معجباته؟
– ليتني منهنّ
– وهل تقبلين أن تكوني رقماً؟
– رقماً أو حرفاً لا يهم.
– حرفاً أيضاً ؟ علام كل ذلك؟
ورحت أنظر إليها باستغراب وأنا أحدّث نفسي: سبحان من جعل البشر أذواقاً، شاعرٌ بشَعرٍ غير ممشّطٍ وهندام مبعثر لا يوحي بأي نظافة وحوله معجبات يستقتلنَ للظفر بقلبه ويقبلنَ أن يكنّ رقماً لا وبل مجرد حرفٍ في كتابه.
وبحركةٍ مباغتةٍ وقفَت وقالت لي: تعالي معي، سأطلب منه أن ألتقط صورةً معه.
فضحكتُ ممازحة: يا مجنونة أنا لازلت أحتفظ بعقلي
وحين يئسَتْ أن أذهب إليه معها طلبَتْ من النادل أن يكلم الشاعر ويبلغه أنها تودّ صورةً معه، ففعل وأتاها بالجواب: تفضلي!
لم أعرف إن كان عليّ أن أمسكها أو أتركها وهي تسألني متأهّبةً للذهاب إليه: كيف شكلي؟ كيف حال أناقتي؟
فقلت لها: أفضل من أناقته حتماً، تتأنقين لتلتقي برجلٍ لا يعبأ بنظافة مظهره أمام الناس!
لم تسمع نهاية كلامي لأنها لحظتها كانت تقف أمام طاولته، تقطعُ عليه جلسته، فيلتقط النادل لهما صورةً بهاتفها المحمول، وتعود إليّ كأنها تملك سعادة العالم بيدها ولكن آلمها أنه لم يعبأ بها كما كانت تأمل، فقد كان مشغولاً وعاود جلسته الملاصقة للفتاة معه.
فجأةً لم تعد ترغب بالبقاء وأصرّت أن نذهب، فقد حصلت على صورة منه وبزعمها ربما تلتقيه مرة أخرى لتأخذ مكان تلك الفتاة!
طلبتُ منها أن ترسل لي نسخةً عن الصورة ووعدتّها أن أقوم بإخراجها بشكل جميل وأرسلها لها، ففرحَتْ وودعتني وذهَبَت ووقفتُ أنا أمام باب المقهى أنتظر سيارة أجرة والتفتُّ إلى ذلك الشاعر صاحب المشاعر بقدمين، وأضحكتني فكرةٌ راودَتني أكانت قدمين حافيتين أم بحذاء؟
عدتُّ إلى المنزل وفور دخولي صمّمتُ للصّورة إطاراً، كتبتُ لها داخله: لا تقبلي أن تكوني ( واحدةً من ) ولو أعجبك، كوني (كلّ) أو لا تكوني، لستِ رقماً ولا حرفاً، ودعكِ من مشاعر تتنقَّل على قدمين.
هانيـة خانكان