قصة قصيرة
المعلم #فراس
دخل إلى الصف بعينين تقدحان غضباََ .. كانت تحية التعارف الأولى مع تلامذته صفعة بكفّه العريضة على خدّ كل تلميذ و تلميذة ..
ثم طلب من الجميع التقاط كل ما رُمي تحت المقاعد و وضعها في سلة المهملات ..
كان الصف بكامله في حالة ذهول اعتراه الصمت ، بل السكوت ، حتى تكاد تسمع صوت ريشة طائر هوت من فضاء في ساحة المدرسة ..
ألقى عليهم الدرس بجديّة جعلت من التلاميذ هياكل صامتة لا تجيد سوى الاستماع .
كان الأستاذ فراس وسيماََ ، تلفّه الأناقة من كل اتجاه ..
عيناه المحروستان بأهداب حادة و طويلة تجذبان كوكباََ برمته رغم صغر حجمها ..
انفه شامخ كبرج مزين بالأضواء ..
و فمه رابياََ أحمر اللون كحبّة فراولة طازجة ..
أما وجهه فقد كان يقال آنذاك أنه كوجوه مشاهير هوليود أمثال جورج كلوني .
لمياء تلميذة غير نجيبة .. سمراء اللون ذات شعر أشعث و وجه دائري صغير بملامح ناعمة خجولة ..
تجلس في المقعد الرابع من الرتل الأوسط في الصف ..
كان خوفها من الأستاذ فراس تفوح رائحته من بين يديها المكتّفتين طوال الوقت المخصص للدرس ..
: ما اسمك يا طالبة ؟ قفي و أجيبي
: للللمياء أستاذ .
: اسمك الثلاثي يا بنت
: لمياء سعيد غانم
: تفضلي إلى اللوح و حلّي المسألة الرياضية المطروحة
…………….ما بك ؟ .. ألم تسمعي ما قلت ؟
: أأأنا .. أأأنا ..
ارتجفت لمياء .. ثم راحت تمسح دموعها المنهمرة بخوف .
صوت الضحك الخافت من قبل زملائها يكاد يذيبها خجلاََ .
تمنت لو أنها أخذت المقعد الأخير من الرتل المتطرف .
: أجيبي يا طالبة .. ما دهاكِ ؟
: هههههههههه لمياء كسلانة الصف يا أستاذ فراس ، هي لا تجيد القراءة و لا حل المسائل الرياضية ..
و ترتجف كلما أشار إليها معلم أو معلمة للمشاركة في أي درس .. هي مجرد تمثال جالس على مقعد ..
: ما قاله وليد صحيح يا أستاذ ، لمياء لا تستوعب الدروس ..
: يبدو ذلك جلياََ .. و هل هذا وجه طالبة علم
توقفي عن البكاء يا لمياء لن أصدع رأسي معك ..
اجلسي .
جلست لمياء مكسورة الخاطر .. لم تنس طوال يومها ما حصل معها في المدرسة ..
كان يوماََ بئيساََ و ظالماََ بحق أنوثتها و ظروفها القاهرة ..
قالت في نفسها : لا أحد يشعر بما أعانيه .. الكل مشغول بنفسه و بكيفية ظهوره بمظهر يلفت انتباه الآخر ..
إنهم مزيّفون .. فارغون .. لكنهم بارعون أيضاََ .
صباح يوم الأربعاء كان مختلفاََ عن كل الصباحات التي عاشتها لمياء في مدرستها ..
شعرت بأنها وردة بأجنحة .. و أن هناك فراشة ملونة تحط على خصلة من شعرها ..
لم تكن جزمتها السوداء الخاصة بالنظام المدرسي أنيقة كفاية لكنها أجهدت نفسها في تنظيفها و إضفاء لمعة من معجون البويا الأسود عليها ..
لفت التغيير في طلتها انتباه زميلاتها و زملائها ، لكنهم لم يسدوا حاجتها لسماع كلمة أنت جميلة يا لمياء .
مر يومها كباقي الأيام لكن شعورها كان ينحو نحو الفرح و الأمل بغد أفضل ..
في اليوم التالي أولت اهتماماََ أكبر بنظافتها و تصفيف شعرها و تلميع جزمتها .
توالت الأيام و لمياء تزداد جمالاََ و أناقة ..
رفعت كفها للمشاركة في حلّ المسألة الرياضية التي استعصت على الجميع .. أبدعت في حلها برشاقة ذكاء ..
اندهش الصف كله حتى كادت جدرانه تفتح شبابيكها دهشة
: أحسنتِ لمياء ..
أنت تتألقين كل يوم أكثر من سابقه ، لا بد أنك التحقتي بدورة تعليم خاصة ..
: كلا يا أستاذ فراس هو اجتهادي الخاص .
أثار تميز لمياء المتصاعد يوماََ بعد يوم غيرة زميلاتها
فقد التفّ الزملاء حولها بإعجاب و هم يستعينون بها لحل المسائل المعقدة .. و يأخذون توقعاتها عن أسئلة الامتحان
و يستشيرونها في كيفية تنظيم الوقت للدراسة ..
لم تعرف كيف و متى أصبح لقبها “لمياء العبقرية”
و رغم الإساءات التي كانت تتلقاها كل يوم من أترابها بدافع الغيرة كانت تبتهج بنفسها كونها استطاعت أن تكون كما الصورة التي رأتها في نفسها و هي طفلة .
في يوم عيد المعلم كتبت لمياء كلمات بسيطة ألقتها في ساحة المدرسة بحق الأستاذ فراس قالت فيها :
الأستاذ فراس الوسيم :
كان اليوم الذي لم تشأ أن تصدّع رأسك لأجل أن أرتقي بمستوى اجتهادي هو اليوم الذي جعل مني “لمياء العبقرية “
و إني أقدم باقة الورد الكبيرة هذه في يوم عيدك لابتساماتك التي كانت تحيي فيّ ذكرى عمي المتوفى الذي كان يرى بي طفلة عبقرية تحتاج إلى رعاية لتنمو بشكل سليم ..
كنت كلما لمحتُ ابتسامتك في وجه غيري .. أغبطهم .. و أبكي لوحدي لإني لن أنالها منك يوماََ كوني تلميذة غير مجتهدة ..
لم تكن قاسياََ جداََ معي ..
لكنك لم تكن معلماََ حقيقياََ ..
كان عمي الغالي يسكن وجهك ..
فأحدّثه من بعيد : سأكون كما كنت تراني يا عماه .
شكراً يا أستاذ فراس لإن وجهك يشبه وجه عمي الجميل و ابتساماته الحانية .