صمت الفراشة.
سأقص قصة الرجل الأول والأهم في حياتي والحقيقة إنني لم أهتم لرجل غيره منذ رحل عني حين كنت في الثانية والعشرين من عمري, إنه أبي الصالح صالح ،أغلبها أحداث حقيقية، بعضها سمعتها منه وأخرى عن أمي والمتأخرة منها عشتها معهما فلم أرغب بالحديث عنها تفصيلا لأنها تؤلمني .
كونوا معي وسأشعر بكل من يهتم بالقصة فهي ربما تتشابه مع ذكرياتكم فالبيت العراقي واحد وأهلنا بدأوا حياتهم بحياة أفضل وأحلى طعما رغم قساوة النهايات مع تقدم الزمن وتلاشي الأمان وغياب فرص الحياة الطبيعية وسط براكين حقد الحكام والسلاطين وتراكم التقدم المذل على شعوبنا فقط !
كان ياماكان وعلى الحدود الشرقية لأرضنا الطيبة قرية صغيرة بيوتها طينية تنام بسكون وسط البساتين المكتظة بالأشجار الخضراء الثقيلة بالثمار وبروعة الأرض المروية بسخاء الأنهار وألفة الناس .في احدى الدور تحيا عائلة من ثلاث بنات وولدين الأكبر أسمه ( صالح) قارب عمره الثامنة عشرة, جعل له والده الرأي والحكم في البيت لينزوي هو بصمت بعيدا عن كل حديث.
كان صالح وأبوه يعملان في بستان صغيرة لهما.
في صباح حلَّ عليهما وهما مع باقي المزارعين , كان حديثا جعل الاب ينفر من صمته حين قال احد الرجال:أبو صالح شنو عندك من خبر ابني وابنك جتهم العسكرية صالح وحسوني بعدلهم ثلاث أشهر ويلبسون, شراح انسوي والحرب عالمية ووين راح يودوهم ؟؟؟.
بانت الصدمة على أبو صالح فصرخ : اشتعلوا أهلك منين جبتلي هالطركاعة .. لا ما يروح ابني . لو على كص ركبتي.
نظرصالح الى أبيه بحزن وقال: انطي درب يابه لتنخبص منا لثلاث اشهرالله كريم.
ابو صالح بغضب : ولك يا الله كريم همه الانكليز يعرفون الله . ياخذوكم يشمروكم بتلفات الدنيا وتموتون حالكم حال الجلاب.
أحد الرجال: لازم تدبرله بدل, هو طول الزمن ولد الخايبين حصاد الحروب.
صالح: ان شاءالله يصير حل ابوية اصبر بعد وكت على دقيقة مية عمامة تنكلب.
وسط حديث الرجال عن الحرب, قام صالح مبتعدًا عنهم ليتجول في البستان حين هبَّ نسيم عليل أغدق ببرودته على صالح فكان كمن يستيقظ من نوم عميق فأرتجف مبتسما وسار مع النسيم فتفاجئ ببقعة أرض تناثرت فيها الزهور بألوان عدة وافترشتها فراشات بأعداد كبيرة تتنافس عليها وكأنها في حفلة رقص .
جلس صالح بالقرب منها وهو ينظربفرح مندهشا .
فراشة جميلة ابتعدت عن الكل لتقترب منه فمدَّ يده اليها لتستقر عليها وهو ينظر اليها مبتسما وشعر بها تنظر اليه بغرابة وهدوء, ثم رفرفت مبتعدة عنه تاركة غبارها على يده, تذوقه متلذذا وقال:” الله شكد طيب طعم ترابج يمكن تطلعين بنية حلوة وحبيتيني ” .
جاءه صوت والده يدعوه للعمل . ترك المكان وهو ينظر مودعا الفراشة الزائرة وكأن شيئا ما منها جعله يشعر بالقوة والفرح وبالحرية .
*حلَّ المساء .
جاءت أم صالح بالطعام وهي تنظر إلى زوجها وهو ممسك برأسه متأوها, فقالت: تحجون احسنلكم, انت وابنك من طبيتوا للبيت وجوهكم مكلوبة وخليتوا كلبي يرجف شكو؟ خير؟ منو اكل عليكم فلوسكم؟ منو هددكم؟ هي مصايب عمي الله يرحمه تضل ورانا ورانا.
رفع رأسه ابو صالح وقال: عوفي ابوية واللي خلفوني احسنلج , ابنج راح يلبس عسكرية , راح ياخذوه الانكليز يحاربلهم ولاجنج مخلفته, ولا جني ربيت وتعبت. ولك صالح سكتها لأمك ما اتحمل أسمع حسها وخريطها.
صاحت المرأة وكان الاطفال من حولها ينظرون إلى الطعام بلهفة: يبوووو وتعوفهم ياخذوه ؟
ابو صالح : صالح كوم خلي اخوتك يتعشون آني ما اريد.
وجلس الوالدان يبكيان .. وكأنهما في مأتم .ولم يتقدم أحد ليأكل, كان مساءً موجعا ملأهم خوفا وحيرة .
*حلّ الصباح.
خرج الأب وابنه إلى العمل, لبست أم صالح عبائتها الجديدة وخرجت لتزور احدى نساء القرية المرموقات بالغنى والأملاك, فوقفت عند الباب وطرقته :
كان الجواب من خادمة الدار بعد أن أخذت الإذن بدخول أم صالح: تفضلي الخاتون موجودة.
سلمت أم صالح وأجزلت الثناء للمرأة وزوجها وأولادها ثم تقدمت بطلبها قائلة: رحم لله والديج خاتون اريد منج عونة ابني يريدون ياخذوه للجندية واحنا ماعدنا غيره يشتغل ويه ابوه الباقين صغار وكلت بلكي الحجي يعرف احد ماحود هو ماشاء الله يعرف ناس كبارية هواية .
أجابت الخاتون: ميخالف اختي ام صالح جيتج على راسي وان شاء الله اليوم اسأله ويصير خير وانطيج خبر ويه الخادمة.
حلَّ اليوم التالي.
طرقات على باب أم صالح , الخادمة تقول:” الخاتون تريدج ام صالح.”
ارتدت عبائتها مسرعة متلهفة لسماع الرد فكان :
ام صالح ابشري هذا عنوان ضابط صديق الحجي وهو موجود هسه ببيته بالمدينة روحوله ويسويلكم الخير هو خوش ادمي.
فرحت أم صالح وشكرت الخاتون كثيرا و دعت لهم بدوام الخير والعز, وعادت الى دارها لترسل الخبر الى أبو صالح لتبشره فيرتاح فكره..فكان الامر كما ارادت.
*حلَّ المساء .
جلس الجميع إلى الطعام يأكلون بنهم, وبانتظار الصباح وزيارة الرجل الضابط وأملاً بالفرج من الهم .. وكان اللقاء.
استقبل الضابط أبا صالح وصالح بطيب الكلام فقال:حجي شيشتغل ابنك ؟
أجاب أبو صالح: والله عدنا بستان صغيرة نشتغل بيها وعايشين .
قال الضابط: هاي متفيد ينراد شغلة غيرها تنفع بالمعسكر حتى ابقيه يمي وانزله اجازات كل وكت ويبقى كبال عيني .
أبو صالح: دليني شسوي رحمة لموتاك الله يعلي رتبك.
الضابط محدثا صالح : شنو رأيك تصير خياط وأخلي خياطي الخاص يعلمك بهالشهرين ويسويك اسطة واخليك يمي تخيط للضباط.
قال صالح بفرح: ياريت اتعلم عمي الضابط وشوف شلون أبيض وجهك والله.
الضابط: بس هو ببغداد يعني لازم تسكن هناك وتنزل لأهلك اسبوعية.
الضابط لأبو صالح : تتحمل غيابه عنك ايام من الاسبوع؟
أبو صالح: ميخالف سيادة الضابط لعد شلون مترهم غير هالشكل.
الضابط : طيب وراح اخليه يساعده في توفير سكن فاطمئن.
وهكذا كان صالح في دكان الخياط يتعلم منه مهنته وينظر إلى العالم من مكان آخر بعيدا عن والديه وقريته, كان يذهب إليهم كل اسبوع بأجرة عمله فرحا .
شعرصالح بطعم غبار تلك الفراشة في فمه, وعلم أنَّ الحياة تحبه وشعر بالقوة والحرية في مكان مختلف وحياة تجتاحه من كل اتجاه, فكان بعيدا عن الحرب رغم ضراوتها وأحبه الضابط وساعده, وانتهت الحرب وبقي صالح في بغداد ومرت الايام تحتسيها الشهور والسنين وصالح في غرفة صغيرة ببغداد وحياتها الواسعة.
*ليل بغداد.
دخل صالح غرفته وأشعل مصباحا معلقا قرب الباب وأدار المزلاج ليكون وحيدا كحاله منذ زمن ليس بقصير, كان الوقت متأخرا, ليلة صاخبة قضاها في المقهى مع صحبة إعتاد على وجودهم حوله وهم يلعبون الدومينو ويستمعون الى الاغاني والمواويل والاخبار.
رمى بجسده في الفراش والتحف الغطاء وكأنه يشعر ببرد شديد محدثا نفسه : أيه صالح وتالي وبعدين وياك أشو صارت سنطة , الحرب وخلصت والعسكرية وتسرحت منها والعمر ماشاء الله يركض ركض ودكيت التلاثين.
“تذكر صالح زيارته الاخيرة وما دار بينه وبين والديه فدخلت روحه وأفكاره مع أهله هناك, فقد كان يزورهم كل حين ليحط كما الطير مفترشا أرض الدار ويتجول حيث الأشجار ورائحة الأرض, وينظر بحب إلى والديه المتعبين مُقبِلاً يديهما , ويضع ما يحصل عليه من مال في حِجر أبيه.. فكان والده يعيد إليه ثلثه. كان صالح مسرورا بأخوته , لقد كبروا على الطفولة فأخوه صار بعمر الالتحاق بالجندية ومقررا التطوع لجعلها مهنة.
عاد صالح محدثا نفسه : وين الكي بنية ترضى تتزوجني هنا ببغداد؟!
جاءه صوت والده حين قال له : ” لازم تتزوج منا عدنا بنات هواية بالكرايب فاختارلك وحدة” وأجابه ضاحكا : يابه ما اريد منا ولا من الكرايب, تعودت على عيشتي ببغداد ,الناس هناك غير شكل واريد بنية غريبة حتى لا قيل ولا قال, اسكن بعيد , بس ما اعوفك والله, بس شغلة الزواج تعذرني بيها.
حينها قالت والدته: هاءها لا قيم الركاع من ديرة عفج, هو هذا اللي عرفته, وبعد عيني وليدي لكيتها لو لا؟
صالح:لا يمه بعدني بس انتي ارضي وادعيلي كلها تصفى وتمشي تمام, الله الستار من النسوان.
نظر والديه اليه بصمت. وانتهى الكلام.
هكذا كان صالح يتذكر ليعلم أنَّ القرار له وحده , فشعر بالدفء ونام وهو يحلم بامراة تأخذه حيث يريد .
*حلَّ الصباح .
صالح في دكانه البسيط, وصوت الماكنة تدور تحت قدمه وأفكاره معها تبحث من حوله عن حلمه. ومر النهار سريعا ليشعر بشخص يقف في باب الدكان.
(وينك عيوني؟) كان صوت محمود عند باب الدكان معاتبا صالح .
صالح:هنا..وين يعني اروح من الصبح الى هسه حتى بله اكل بس جاي وجكاير؟!
محمود: يلله صار المغرب خلي نروح نلعب وعود هم اغلبني عشا مثل البارحة .
صالح: عشا وغده .. تدفع؟
محمود: غير تغلبني أول ههههه. كوووم عزل الدكان .
دخل الاثنان المقهى وهما يلقيان السلام على الجميع ويجلسان عند منضدة خالية.
يصيح محمود على صبي صغير طالبا الشاي وعلبة الدومينو.
كان بالقرب منهما ثلاثة رجال يهمس أحدهما للآخر مشيرا إلى محمود.
وماهي إلا دقائق حتى انهالوا ضربا على محمود الذي وقع مضرجا بدمه على الأرض.
بهت صالح و ارتمى على الرجال مانعا إياهم وآخرون من الاستمرار بضرب صاحبه قائلا : يمعودين راح تكتلوه .
أحدهم: أي هو هم هيج نكتله مثل ماكتلناها ونغسل عارنا.
تجمع الناس والشرطة وأقتيد الرجال ومحمود والشهود ومن بينهم صالح.
تم حبس الرجال الثلاثة الذي اعترف أحدهم بقتل اخته. ومحمود متهما بشرف البنت .
عاد صالح من هناك ممتعضا . (هل ممكن أن يكون صاحبه هكذا ؟ إنه لم يتحدث يوما عن أي شيء من هذا القبيل) .
مرَّ الليل طويلا على صالح تملؤه الحيرة والوحدة.
في الصباح توجه صالح نحو دكان الخياط الذي تعلم على يديه الخياطة وحياة المدينة.
صالح: السلام عليكم أسطه.
الخياط: ياهلا بصالح تعال ابوسك وينك صار شهر ماكواشتاقيتلك !؟
صالح: اعذرني اسطه والله الشغل والدنيا تدوخ والا انت تعرفني شكد احبك وما انسى فضلك وجيتك اليوم محتاجك بنصيحة .
الخياط: تدلل وليدي صالح تستاهل انت أصيل.
صالح: اسطه اني حاير بأمري,عيشتي هنا وحدي بهذله واني كبرت وخمو أبقى هيج أريد أتزوج , بس منو ترضى بفقري واني غريب واكثر كروتي لاهلي , وما أكدر أرجع أعيش هناك بعد لأن تعودت على المدينة والناس والشغل هنا شسوي؟
الخياط : لو جانت عندي بنية جان زوجتها الك..على كل حال يا ابني الحياة هنا صعبة عليك فليش متحاول تعيش في مدينة قريبة من اهلك وتتزوج بنية من الكرايب ؟
صالح: لا ما اريد منهن .. فكري ضارب على وحدة غريبة واحس الله كاتبلي هيج بس بعد القسمة ممتيسرة. كلشي هنا احبه نوع الحياة والتفكير والراديو والكهاوي وحجي الناس بالسياسة والاخبار وامشي بالشارع والاضوية والاسواق والافندية, كلشي هنا حبيته وتعودت عليه. وياريتني متعلم القراية والكتابة من وكت ورحت للمدرسة , اوووف.
الخياط: انت ذكي وسبع وابو غيرة وعقلك ماشاء الله ذهب وهذي امور ماتنلكي بياهو الجان فلا تستهين بنفسك خمو كل اللي راحو للمدارس أوادم و براسهم خير يمعود . اسمع نصيحتي الك تبدي حياتك من ذيج المدينة الهادئة القريبة من قريتك , اظنها تناسبك واني متأكد منك تلكي المره التي تريدها وتفتح بيتك .
صالح: بلي اسطه خوش حجي ونعم الراي رايك, بلكي تعرف احد هناك يساعدني الكي دكان وفد غرفة؟
الخياط: أي اعرف وراح اروح وياك وما ارجع الا وحاجتك مكضية وتدلل وليدي صالح.
صالح : اني ممنون منك هواية اسطه واشكرك.
كان الوقت ضحىً حين وصل صالح والخياط سوق المدينة الجديدة.
الخياط: ابني صالح الرجال اللي راح نروحله صاحب معمل خياطة واني جنت صانع عنده, من رأيي تشتغل عنده علما تستقر وتعرف الناس ويعرفوك حتى يسهل عملك لوحدك وتفتح محل..اتفقنا؟
صالح: نعم اسطه خوش حجي والا شلون اكدر أوفر اجرة سكن ودكان ومعيشة الي واهلي وفوكاها اريد اتزوج ههههه.
الخياط: الله ينطيك مرادك وازورك واجيبلك هدية عرسك , هياته المعمل وصلنا .
“السلام عليكم” قال كلاهما وهما يدخلان مكتبا صغيرا في مقدمة قاعة كبيرة تحوي ماكينات خياطة حديثة وعمال وأكوام من الاقمشة .
وقف الرجل مرحبا بحرارة وهو يحتضن الخياط قائلا : أيباه منو أبو قاسم ياهلا وينك ؟! شلون هزيمة انهزمت منا , تصدك انت اليوم على بالي من الصبح والله مشتاقلك.
الخياط: ما أنسى فضلك عليّ ابدا استاذي ابو ابراهيم لو مو انت فلا جان صرت اسطه,ههه.
ابو ابراهيم: هذا ابنك؟
الخياط: صالح ؟ هو مثل ابني وعلمته كل ماعلمتني واريد منك تخليه عندك بين عمالك هو ماهر وطيب وخوش ولد.
ابو ابراهيم: اعتبره من هسه اشتغل . بس ابني انت تعرف تشتغل على هذي المكينة الحديثة؟
صالح: اتعلم بسرعة ان شاء الله.
ابو ابراهيم وهو ينادي أحد العمال : تعال يا حسين .
حسين: نعم ابو ابراهيم.
أبو إبراهيم : صالح راح يشتغل وياكم ديروا بالكم عليه وعلموه طور الشغل هنا وعلى المكينة والتفصيل والقالب وكلشي افتهمت.
” مد صالح يده وصافح حسين”
حسين: صار استادي تأمرني.
حسين لصالح: “يلله خوية نبلش أعرفك على العمال والشغل “
نظر صالح إلى الخياط .. ففهم الآخر طلبه فقال: استادي صالح مو منا يعني حتى سكن بعده مالاكي وهو محتاج جم يوم علما يستقرو ينقل غراضه من العاصمة. بس هو وردة بالشغل واطباعه حلوة وصبور وخياط ماهر وبكفالتي.
أبو ابراهيم : أها , يعني ماعنده سكن؟
الخياط : لا والله جيناك فد راس كلنا نأمن الشغل يلله السكن.
أبو ابراهيم: غداكم عندي بالبيت وراها نروح على بعد محلتين من بيتي اكو سكن فرغ البارحة جانوا كاعدين به كرايبي,هو بيت صغير بلكي يرهمله. يلله صالح توكل على الله وروح ويه حسين ويصير خير,خلينياسولف ويه الصانع المهزوم مني ههههه ,علما يصير وكت أذان الظهر نصلي ونروح البيت.
قام صالح مسرعا حيث العمال وبدأ بشغف يسلم على الجميع واستلم قماشا ونموذجا وشرع في تفصيله,ثم خياطته .
ارتفع صوت الآذان, تقدم صالح من أبو أبراهيم والخياط حاملا عمله ليعرضه على صاحب العمل فأبدى الاخير رضاه وقال: عاشت ايدك احسن شغل.
أنهوا الصلاة وكانوا في البيت حيث الطعام البسيط والبركة وفيرة وفرحة تهللت على وجه صالح وهو ينظر بامتنان الى الرجلين .
كان المنزل المطلوب صغيرا وقديما لكنه في مكان قريب من السوق ومناسب له في السعر فوافق واستلم مفاتيحه ونظر من حوله إلى بيوت جيرانه فشعر بالهدوء وكأنه أمام حقل فراشات هناك قرب أهله فابتسم.
فُتح باب أحد الدور وظهر رجل كبيرالسن أبيض الوجه جميل المحيا فسلم عليهم مصافحا للجميع: السلام عليكم ياهلا ابو ابراهيم شلونك ؟
أبو ابراهيم: الحمد لله بخير..اوصيك حجي جاسم على جارك الجديد اعتبره ابني وهو بكفالتي.
الجار:بعيني اخليه يمعود هلا بك وبه..بس وياه عائلته ؟
أبوابراهيم ينظر إلى صالح وهو يقول: اهله بعيدين بقرية على الحدود وهو هنا يشتغل وياي.
الجار: خيرا ان شا الله .
صباح اليوم التالي كان صالح في منزله الجديد ينظفه بلهفة ويرتب اغراضه البسيطة التي لا تتعدى سريرا وصندوقا خشبيا كبيرا بعض الشيء و بعض ادوات مطبخ .
جاءت طرقات على الباب فأسرع ليفتحه , كان جاره يحمل طعاما وهو يقول:
السلام عليكم . هذه ضيافة بسيطة وأي شيء تحتاجه بس كول واني حاضر اني مثل ابوك واحنا اهلك وهذاك دكاني اني عطار .
صالح وهو يحمل عنه الطعام : اشكرك عمي الله يطول بعمرك ويعمر بيتك.
الجار: بالف عافية .أودعناك.
دخل صالح بسرعة ووضع الطعام وبدأ يتناوله بنهم من شدة جوعه .
ومرت الأيام وصالح في عمله يكد من الصباح حتى المساء . كان يتشارك مع عمال المعمل الطعام والشراب وصارت له صحبة طيبة وعرفه الناس وأحبوه , كما أن صاحب المعمل كان مبهورا بعمله, فناداه يوما:
صالح تعال عندي لك خبر.
صالح : نعم استادي ابو ابراهيم اني بالخدمة.
أبو ابراهيم: اختاريتك لمهمة ممتازة تستفاد منها هسه وللمستقبل, اريد أسفرك لباريس لفترة شهر او شهرين في دورة تدريبية وترجع اسطه ونص ومديرا للمعمل وتدرب باقي العمال, ها شتكول؟ خوش فرصة مو؟.
سكت صالح وقد بانت عليه الصدمة.
ثم قال: ما اكدر استادي بركبتي هواية, بعدين هاي شغلة صعبة وتخوف اني لا اعرف اقرا ولااكتب,اعتذر منك واشكرك على ثقتك.
أبو ابراهيم: والله يابه حبيتك مثل ابني وردت أفيدك. بكيفك بعد اشوف نصيب من غيرك واتمنالك التوفيق انت طيب ومخلص وتتقي الله بكل شيء.
أطرق صالح رأسه مهموما وهو يقول: الحمد لله على كل حال .
انقضت الشهور على صالح وهو يعيش وحيدا في منزله حتى كان يوما مختلفا حين تأهب للخروج من منزله ففُتح باب جاره لتكون أمامه بنتا لم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها , رأته وسرعان ما أغلقتها . لكنه بقي مبهورا فقد كانت جميلة جدا , فصار يحدث نفسه: شنو هاذي شكد حلوة وشكد أثول آني اللي بيتي كبال بيتهم وابوها يسولف وياية ويحبني وفوكاها اندب الحظ واكول شلون الكي مره؟! هو الاثول هم يشوف؟ صارلي شهور جيرانهم وماشايفها !!.
تنفس بقوة ليسترد نبض قلبه فجاء طعم غبار الفراشة الحلو في فمه فابتسم , واغلق بابه وسار إلى عمله. وقد قرر التقرب من جاره بوسيلة ما.
حان أذان الظهر فصلى صالح كما تعود مع صاحب المعمل والعمال في المسجد القريب, لكنه اليوم قرر أن يعود إلى منزله, فاشترى بعض الخضار وعمل لنفسه بعض الطعام فأكله ونام قليلا , ثم خرج وهو ينظر إلى باب جاره حين انفتح وكان العم أمامه مبتسما وهو يحييه: السلام عليكم, اليوم هنا , لو أدري بيك بالبيت جان جبتلك غده.
صالح: وعليك السلام عمي جاسم, دبرت نفسي ويه الاكل واحتاجيت ارتاح وانام..وين تروح هسه عمي ؟
العم: لدكاني غير وين يعني , تجي ويايه أشوفك حاير!
صالح: أي والله راح اجي وياك شوية ضايج ومشتاق اسولف سوالف الابن والاب.
العم: يلله ياريت .
وكان الاثنان معا في وادِ واحد, تحدث صالح عن اهله وقريته وكل مافي جيبه من حياة بسيطة لاتحمل المفاجآت. كما تحدث الجار والعم عن حاله فقال:
ماتت مرتي كبل عشر سنين بمرض السل وعافتلي بنتين الجبيرة بعمر سبع سنين والصغيرة اربعة , جنت اخذهم وياية وين ما اروح واكعدهم هنا بالدكان لان ماعندي احد يهتم بيهن, ومثل ماتشوف اني فقير, بس عندي صديق وعنده بنية وشاف حالي وجان عمرها سبعة وعشرين سنة وكال لي وصلتك بنتي, والحمد لله تزوجتها حته تفتح بيتي وتهتم ببناتي فصارتلهن ام وجابتلي ولدين.
صالح: الله يساعدك , قهر الدنيا اشكال والوان اعتبرني ابنك وبخدمتك .
الجار : بارك الله بك ما تقصر.
صالح: من رخصتك عمي اروح للسوك وان شاء الله نبقى سوه .
الجار: ان شاء الله.
أشار صالح بيده مودعا وسار الى السوق حيث عمله ورفاقه.
وجاء صباح اليوم التالي كئيبا حين كان صالح يعمل الشاي ليفطر قبل ذهابه لعمله علت صرخات من بيت جاره, خرج صالح ليقف عند بابه ولم يتجرأ ان يطرق بابهم. جاء الى مسامعه بكاء بنت وصراخها من ألم وصوت الجار يقول:”لا,لا بنتي راح تموت “
اصوات تقيء وكلام وبكاء,ثم سكون.
وقف صالح متسمرا في مكانه في حيرة وقلق ثم دخل بيته ليحمل جاكيته ويخرج مغلقا الباب بغضب وهو ينظر إلى باب الجار,وسار إلى عمله مهموما.
مرت ساعات العمل مملة على صالح وهو قلق على مايمكن أن يكون قد حدث في بيت جاره، هل تكون هي من أصيبت بمرض او حادث؟
حلَّ وقت الظهيرة وعاد صالح الى بيته ونظراته ملتصقة حيث الباب المغلق والسكون.. هل يطرق الباب ويسأل عن الحاج .. لكنه وقت الظهر وقد يكون محرجا حيث وقت الغداء .. ترك الفكرة وحاول أكل بعض الطعام وتأجيل اأمر الى العصر..وكان.
صالح: السلا م عليكم.
جاء صوت امرأة ترد السلام وتخبره أنَّ الحاج في دكانه. ارتاح صالح للجواب وسار مسرعا نحو دكان الجار.
صالح: سلام عليكم عمو .
رد الجار:السلام عليكم .
صالح: ضل بالي يمكم البارحة سمعت صوتك تصيح وخفت يكون شي مو زين صارعليكم وردت أسأل واساعد بس استحيت ادك الباب.
الجار: رحم الله والديك ماتقصر.انت ابن حلال جانت مشكلة والله ستر ما ماتت بنتي الصغيرة. ومااضم عليك الصوج مني.
صالح: يا ستار اكدر اعرف شصار؟
الجار:اني اريد احجي اللي صار لان تألمت هواية, القصة ومابيها من جنت أَبني بسطح البيت والبنتين ينقلن الطين ليفوك ومرتي كاعدة تلعب ابنها. صيحت بنتي عليها كالتلها”ليش انتي كاعدة واحنا نشتغل ظهرنا انكسر اني واختي ننكل تنكات الطين الله يقبل ؟”
وصاحت عليَّ مرتي تشتكي منها, نزلت ولزمت بنتي موتتها من الضرب,انهزمت من ايدي وشربت أسفنيك سائل سام نستعمله للمرحاض,وكامت تتمرغل بالكاع,ماكدرت اوديها للمستشفى فعالجتها وشربتها ماي ركي وملح حتى زوعته كله وهي هسه بالفراش واختها تداريها,ماادري شسويلها.هي مو مثل اختها بتولة ساكته وصبورة,بس خولة لا, صعبة كلش,اكو يتيم يصير ساكت مثل ابنتي بتول ومرات يتخبل ويسوي مشاكل مثل خولة واني شكد احبها.
صمت صالح لفترة ثم قال بخجل: عمي ياريت ماتجاوبني بسرعة، ترضى تزوجني خولة ؟ انت تعرفني من مدة طويلة اريد اتزوج واني احبك وعاشرتك وانت عرفتني وياريت اصير نسيبك وممكن تسأل عني وعن اهلي مثل ماتريد واقبل بقرارك.
أجاب الحاج: ان شاء الله خير اترك لي فترة وأرد عليك وكلشي قسمة ونصيب.
مرت الايام ثقيلة طويلة على صالح وهو ينتظرالجواب, وهو يمر كل حين ليلقي السلام على الحاج في دكانه ويحاول معرفة ما قد تقول قسمات وجهه, ها قد مر الإسبوع وقرر صالح أن يبدأ الحديث من جديد.
صالح: مارديت لي خبر عمي !؟ .
الحاج: ميخالف ابني تره كل شيء عنك وعن اهلك وصلني خير بس اريدها تتعافى وأعوضها أذيتي وقساوتي اللي شافته هي واختها, حرمان الام مو قليل,اريد انتظرعلما يتغير حالها,مااريدها تفكر بان اريد أخلص منها فاختها اكبر منها ماطلبها احد للزواج بعد.
صالح: فهمتك وراح أنتظر.
صار البيت موحشا لصالح وينتظر في كل مرة يخرج فيها ان تقع عيناه على الحبيبة, فقرر أن يعود لأبيها ويخبره أنّه سيجعل نساء عائلته يزورونهم ويطلبونها …….. و كان.
بدت خولة فرحة وأشرق وجهها بالفضول إلى من رآها وعشقها, تغير حالها في البيت ولاحظ والدها وزوجته وشقيقتها التغيير, فوافق الأب وبارك لابنته بقبلة على جبهتها داعيا لها بالخير وبالرفاه والبنين, جرح أصاب قلب اختها لكنها الصبورة الصامتة فقد أصبحت وحيدة بمفارقة أختها لها وكانتا كما التوأم, كما أن العمل قد تضاعف عليها وزوجة الأب تكاثر أولادها تباعا والثقل يزداد بحمله على ظهر بتول… وجرت السنين الكثيرة بسرعة .
*
بيت جديد بلون وردي, صالح يدخل دافعا باب الدار وخلفه شابان يحملان أكياس الخضار ويستقبله ثلاثة أولاد يقفون برهبة أمامه, خولة تأتي إليه مسرعة لتقول: الله يساعدك ابو محمد.
صالح : ويساعدج ام محمد.
بعد قليل جلس الجميع ليتناولوا الغداء .كان الهدوء يعم البيت فالجو صيف حار والأب متعب ويحتاج للراحة. بيت فيه صوت واحد يعلو بالحكمة والرأي والأم تحرص على الكل وأن تكون المحبة رداء الجميع.
استيقظ صالح من قيلولته وجاءت خولة بصينية الشاي وجلست بقربه تتفحص وجهه كان يبدو عليه الهم , فقالت: خيرا ان شاءالله؟ رجعلك وجع الكلى لو قلة الرزق مدوخك؟
صالح: الأقوى بعد القسط مال البيت للبنك, اقترب التسديد.
خولة: اني مود اجمعه من جيبك كل يوم مثل ماتدري وان عوزنا نداين من ابوية عود.
صالح: ابوج راح يكول “منين لي”.
خولة: الله كريم يتدبرلاتفكر هواية مو زين عليك ضغطك يصعد.
بعد يومين جاء أحد الاولاد ليخبر أمه ان والده ومعه رجلان عند الباب، قلقت خولة فارتدت عبائتها وخرجت لتستمع إلى الحديث من خلف الباب فكان الحديث:
” بيش آخر سعر ابو محمد؟”
شعرت خولة بألم يقطع أمعائها كما عند شربها للسم قبل سنين طويلة، لقد فهمت أن صالح قد نوى بيع البيت، وقفت حين اتفقا على السعر وطلب صالح من الرجلين الدخول فدفعت الباب بوجهيهما وهي تقول: “البيت ما ينباع لو على موتي”
رجع الكل إلى الوراء وجاء صوت الرجل:
“بالعافية والسلامة عليكم اختي ام محمد ان شاء الله ماتحتاجون بيعه”.
رحلوا ومعهم صالح ليعود عند المساء دون أن يقول شيئا. في اليوم التالي كانت خولة عند والدها تطلب ما يُكمل القسط وإلا فإن البيت سيباع فلاعمل لصالح والعائلة كبرت وزاد على قدرته ماتحتاجه.
قالت: مثل ماتدري يابه اني اخزن الجبن والدهن بالبساتيك من عنده شغل وما ابهذل فلوسه حتى ايام الماكو شغل ناكل من المخزون وهالموجود والله يعلم ربيتهم ياكلون ويسكتون ، بس هسه القسط مال البنك مستحق وهو مريض وماكو شغل والجهال تسعة وكلهم بالمدارس شوف لنا صرفة يابه الله يخليك عليمن اروح ومنو يداينا والعازة خامدة الناس، ها شكلت يابه الشتا جاي ونسدد الدين ان شاءالله هو كل بداية موسم ييجي شغل.
كان والدها يسمعها بصمت فما باليد حيلة فهو فقير أيضا ولا يقل عدد أولاده عن أولادها.
فقال: راح ادبرلكم المبلغ ان شالله لان اني احب صالح ولو ما اتحمل أذل نفسي واداين بس ميخالف اروح اخذ له من ابن عمي والله مااسويها لنفسي .. كومي رجعي لبيتج هسه واني اجيكم .
وهكذا بقي الدار و قررت العائلة العيش في دار آخرقديم وصغير للايجار ليكون دارهم مؤجرا بالمقابل فهو جديد وسيكون فرقا في السعر يحلون به مشكلتهم . كان عاما صعبا جدا في بيت الجرذان كما يدعونه الأولاد ومع الشتاء الثقيل الذي كادوا يفقدون فيه دعاء الإبنة المدللة عند صالح من مرض شديد أصابها . كما تمرض صالح وقاضته أمه لقلة ما يرسله اليها ولأخواته من مال منذ شهور.
حين أحاط به ولداه الكبيرين ليقف أمام القاضي ويشرح سبب قلة المال المرسل ومرضه وقلة رزقه وكثرة أولاده لكن أمه لها الحق عليه رغم وجود أخ آخر, وتعهد بمبلغ يسجل عليه في المحكمة شهريا .. ومرت السنة بخطوات بطيئة لتأكل من عافية خولة وصالح . وحلت سنين خير وعمل وأكمل ولداه الكبيرين دراستهما الجامعية وبدأت مشاكل من نوع آخر فهاهو الإبن الاكبر قد جرفته عاصفة الافكار والفوضى السياسية لينتمي إلى حزب محظور والآخر وقع في الغرام ليقرر الزواج من زميلة دراسة وغيرهم سبعة من بينهم بنتين ينتظرون رعاية الوالدين لهم.
بدأ العمروالعمل بصالح يمتصان صحته ليقف أمامه ولده الأكبر مقررا الهجرة لأنه مهدد بالقتل من السلطة فكانت ليلة كئيبة من أب مرهق وأم شقيت مع زوجها وأولادها وإبن سيرحل وربما بلا عودة إن تمكن من الهرب وحلّ الصبح بهموم كثيرة.
اسبوع انقضى ليصل الخبر بأن الإبن قد وصل وجهته. والآخر العاشق يهدد بالانتحار إن لم يتحركوا لخطبة الحبيبة. ماكان من صالح إلا أن طرده من البيت قائلا: والله حلوة هاي هو اني حايربالجوكة مالتكم واخوتك ينرادلهم كوشرات فلوس يلله يكبرون ويكملون دراسة وجنابك السفيه تريد تتزوج امشي اطلع من البيت وعيش براحتك والله لايخليني بعوزتك, يلله بره. هو انت مو راح تلبس عسكرية بعد يازواج ؟
كانت الأم خولة صامتة تخاف على زوجها المريض الذي أرهقته الحياة والهّم والمرض وعلى إبنها إن أخذه الشارع.
تنفذ أمر الأب ليكون الإبن في بيت جده الحاج الذي قرر أن يقوم هو بخطبة البنت فمشهد محاولة الانتحار تكررعنده .. وكان الأمر وتحقق ما أراد الإبن وجاء بها في دار أبيه لتكون عبءً اخر .
والتحق الإبن بالخدمة العسكرية ومرت السنين وأكملها ومع الوظيفة التي حصلت عليها زوجته بقيا في البيت مع أبويه ليجمع بهما ما يمكن أن يفتح لهما بيتا مستقلا ولم يهمه حال أبيه، كانت المرارة قد أخذت مكانها من طعم حياة صالح فالسنين طويلة ولم يبق من حلاوة أثر الفراشة شيء في نفسه ، رغم أنَّ خولة مازالت جميلة لكنها مرضت أيضا وصارت تزور المستشفى بكثرة وتلك دعاء المدللة قد كبرت وصارت تعاني عذاب والديها ومرضهما و وطأة الحياة الثقيلة بتغير الأنظمة واجتياح الحروب لحياة الكل فاخذت موقع الثبات وسط حاجة الأسرة و الأم .
لقد اخذت الحياة مجرى آخر ولا طعم فيها لفرح أو أمل، الكل يكبر والهموم تتزايد وصالح اعتاد أن يصمت كما كان والده إنها الحرب في مطلع الثمانينات وبدأ الخوف الآخر مع قوافل التوابيت وبكتابات متنوعة عليها فبعضها مكتوب شهيد وآخر مكتوب جبان وآخر خائن ودوامة موت حلّت على الجميع بأثمان تصل ألى سيارة سخيفة وبضعة ألوف ثمنا لبطولة الموت تدفعها السلطة للاهل والويل لمن يرفض استلامها !
كان أربعة من أولاد صالح قد توافدوا تباعا إلى جبهات الحرب بإكمالهم دراستهم مع تزايد مرضه وعمره لقد تجاوز عمره الستين والسيكارة تستقر في فمه وعينه تستقر على التلفاز وأخبار القتال ومساحتها الواسعة وصراخ المذيع في كل حين مع بيانات القتال والهجومات والخوف يمارس عبثه بالقلوب،ها قد كبروا ليفارقوه نحو المجهول، مع كل رنة جرس للباب كان صالح وخولة يتجمد الدم في عروقهما خوفا من النظر إلى لحد قد يعلو من فوق الباب. وفي ليلة قاسية الانتظار جاءت صرخة من الغرفة حيث صالح ، ركضوا إلى هناك ، وقفت دعاء تنظر خائفة كان والدها يئن من ألم صدره و رأسه في حضن خولة وقد تقيء. قالت دعاء والدموع تحرق عيونها:”ها عيني بابا كلبك وجعك، بابا لاتكسر ظهري لاتعوفني ” .
كانت قد تعلمتُ الكثير من شؤون الأوجاع من مصاحبتها لخولة إلى المستشفى فعلمت أنها جلطة القلب، فما كان منهم إلا أن يستنجدوا بجارهم فهو يملك السيارة ليوصله إلى المستشفى ، كانت حياته مرهونة بالنجاة بمرور ثمان وأربعين ساعة فقلبه قد تعب من الخوف والحزن لكن لم تمر إلا اربعة وعشرين لتعلن رنة الهاتف وصوت أحد أولاده بأن الأب الصالح قد مات وصمت ولن يُسمع صوته ثانيا..وتعالى صراخ خولة بفقد الأم والأب والحبيب فطعم اليتم يبقى مهما كبرت وتطاولت عليها السنين كانت خولة في الخمسين من عمرها واستحوذ برحيله عنها الفراش و المرض لتلوذ بالصمت معهما لسنين طويلة تجاوزت الربع قرن لتصرخ صرخة الثكالى بمقتل أحد أبنائها وتخرس بعدها بجنون الفقد الذي هرب منه صالح إلى القبر، ماتت خولة لتترك البيت الذي كافحت من أجل بنيانه، فما فائدته والحزن غطاءه ، وتلك دعاء بقيت وحيدة صامتة كصمت صالح أبوها لكن بلا كيان فقد كسر أبوها ظهرها برحيله مبكرا ثم هاهي الأم تقتلع فراش العجز الطويل لتترك دعاء وحيدة مع ذكريات وغربة كشجرة يبست ولن تكون ظلا لأحد، تركها صالح تحتسي مرارة غبار فراشة عشقها يوما لتكون موجودة في هذه الحياة بانتظار اليوم الذي لن يشعر أحد ما بصمتها و يوم رحيلها .
ابتهال خلف الخياط