حلم من اليقظة
حَدثَ وكأنّني ابتلعتُ الأرضَ بأكملِها!؛ شيئاً ما يتَربضُ فوقَ صَدري أشبَه بسحابةٍ مُتلَبدةٍ، تائهةٍ في كبدِ السّماء الفاشلِ..،
كانَ الوقتُ يقتربُ من الرابعةِ فجراً، يختزنُ بينَ ثوانيهِ هدوء حَذر يُنذرُ بكارثةٍ قريبة الوقوع على رؤوسنا الفارغة..!
وَجدتني بين مخالبِ لحظةٍ أجترُ مآسيها بأعصابٍ جامدة يَطويها الهَلَعُ من كلّ ناحية؛
إننا الآن….على موعدٍ مع فردٍ جديد سَيلتحقُ بقبيلَتنا الأنثويةِ
لَطالما… انتظرنا هذهِ اللحظة بفارغِ اللَهَف، كي تُنقذنا من مآزقٍ فاجعة نحنُ في غِنى عن الوقوعِ بها، لا؛ بل باستطاعتها حجب حِمم الغضب التي سيفجرها والِدي بِنا على وقتٍ ليسَ ببعيد..
استبدَ الصّمتُ بنا، بعثرَ حُروفنَا الموؤودة، وشلَحنا تماثيلاً منحوتةً من عللٍ نازفة!
والرعدُ يصفعُ غفوةِ المُزنِ الزائفة، يُقيلها فوقَ رأسِ والدتي تزيدُ من طينِها رُعباً
إنّها ليست نهاية العالم..! لكنّها؛ من المُؤكد ستكون نهايتنا في لحظةِ مخاضٍ تتغير فيها الخلقةِ كَي تحرفُ الهلاكَ عن طريقنا
هذا ما راودَ خيالنَا المُتشنج وجعلنَا نستعدُ لطقوسِ الموت قبل أواننا
أذكرها جيداً … أعرفها
كثيراً ما تحاشَت الصّراخ تلمُظاً، وكأنّها تحاولُ دفن كلّ الدمارِ المتَخبطِ بها في قَبو أحشائِها المُرعب..!
لقدْ كانَ صوتهَا مكبوتاً مُخدّراً بمصلِ نائبةٍ تنتظرُنا إن ازددنَا عاراً آخراً في جاهليةِ والدي اللعينة..
لكنّ مدحَ القابلةُ بصبرهَا لم يتوقفْ، بقيَ يُقيلُها إلى محطاتِ النسيانِ كي يتركها بين أيدي أمينةٍ تمنحُ روحها سلام حرب دامية حانَ وقت شنّها
وتحسّرتُ على محاولاتها الغبية… لما هدرتْ من كلام
مسكينةٌ.!! لم تعرف أن البوحَ حقٌ جريحٌ في خليفتنَا
مر القليل إلى أن تدّلَى من خندقِ شفتيها المشققتين همساً، متقطعاً، خافتاً،
افترّ بدعاءٍ ظلَّ يطرقُ على أبوابِ الاستجابةِ تسعة أعوام، وبين المولودِ والآخر حكايةٍ جهنميةٍ تكبتُها معيشتنَا النازفة سراً لا يصلحُ الجَهْر عنهُ خفيةً حتى!
لكنني فهمتُ قصدهَا من كلّ تلكَ المُكابدة !؛ كانَ هذا بفضلِ حَدسي الذي أكسبتنِي إياهُ هذهِ الغرفة الخربة،
سقفِها المُنحل، جُدرانها البالية، نوافذهَا المُتصدعة،!
كانت كفيلة بتعليمِي أَبجدية الصّراخ الأبكم
والقابلة مَازالت تشيدُ بصبرهَا، تُحيّيهَا بنبرةٍ صاخبة تتعالى أكثر فأكثر
وكأنها هي من تَلِد ونسيَت أمّي!!
ضجيجٌ جامدٌ يُخيّم على أشباحِ أَرواحنا المسكونة في اللحظةِ التالية، يَنبعثُ منها صوتٍ أشد خفتاً من سابقهِ؛ كي يحتفلَ الموتُ بوليمةٍ جماعيةٍ تملاُ فمهُ بعدَ هذا الانتظار الأرعن،!
إنّها….ضحيةٌ أخرى ستنضمُ إلى مشرحةِ الجحيمِ اللاحقة،
لو أنّها ….لو أنّها ظلّت تُصارع هديرَ الدّم وعواءَ الضياع لكانَ أفضل من العيشِ بتعريجةٍ واحدةٍ من خطٍ أعوجٍ مُرغمٍ على الاستقامةِ..!
لو أنّها تمَسكتْ بعظامِ الرُعبِ جيداً لكان بإمكانها النّجاة مِن جرائمِ الحياة داخلَ قُضبان الأحشاءِ الهشّة،
كَصنمٍ تجَمّدنا،! آلامُ اللحظةِ بما فيها من فظائعٍ تكورَتْ على نفسهَا في ركنٍ آخرٍ يملأهُ عطنَ الرطوبة من هذهِ الخربة
كانَت تكتلاتُ الأسَى تتهاوَى من بينِ زفراتنا المُتقطعة، ترشفُ لُعابنا السيّال على حالنا، وترمِينا بَقايا بشرية يتشاركُ القدر ولطف الله في مصيرهَا، لكن بين جثَامِينها ومكان غفوتها الأبدية قَبضَة يدٍ يُسرى تعادلُ الفرح الذي عايشهم طوالَ حَياتهِم
وبين زمهريرِ الفجرِ ومصيبةِ العام، لحظةَ هدنةٍ فرضهَا رصاص الاحتفال الذي فرشَ السّماء وكأن ّ الكون بأكملهِ يحتفلُ بالوداعِ
مضى وقتٌ ليس بكثيرٍ إلى أن خرجَ والدي عن صَمته، رمَى ملاكَ الهدوءِ حتى الغيومِ والتبسَ شيطانَ الهلاكِ من جديد
وقف مذعوراً ، خلعَ لوحَ التوتِ المُنتحل صفةِ باب !
أخذت المسافة بيننا تتقلصُ، رفعَ حاجبيهِ بثقلِ كثافتهما مُستفسراً عن جنسِ المولود
جمعَ كفيه وجعرَ بأعلا مابهِ من سوءٍ…!
كانت اللكمةُ الأولى من نصيبِ جدارٍ استمسكَ نفسهِ من السقوطِ رُغمَ أقدامه المبتورة! ثمّ التفتَ ليكمل صبّ جنونهِ في نَاحيتَنا
أخذَ يقتربُ أكثر فأكثر، بدَا كَلصٍ جاءَ للسرقة من منزلٍ يموتُ النملُ فيه جوعاً، وعادَ بخيبةٍ قاتلة رَمَت ضبابَ اليأس على عينيه…
ليجدُ نفسه يفرشُ حِضنه سريراً لطفلتهِ العاشرة، حملَها بين نكدِ كفيهِ ورماها داخلَ أشداقِ النهارِ التي كانت تتجدبُ فجراً بعد عامٍ من ليلٍ ثقيلٍ
غادرت المنيةُ بصحبةِ والدتي، ووعدتْ بالعودةِ برفقة الجحيم ثانيةً
كانَ الخوفُ المتجولُ الوحيد في كلّ مكانٍ، والدّم يتخبطُ في كلّ شيءٍ، وكأنّ العالمَ يقفُ على قدمٍ واحدةٍ
وجدتَني أقفُ كَالملسوعِ من تكورِي، أحد ما يصرخُ في منتصفِ مسمعِي، أنقذَ الكلمات الضائعة منّنا وانتشلنَا من هُوةِ الخوفِ السحيقة
لقد كانَ صدى لا يُخفيهِ مدادَ الجوعِ والبؤسِ، جابَ بينَ عَفن الخشبِ وأسرارهِ الغامضةِ
خدشَ غفوتِي مُيقظَني…!
إنّها حكايةٌ أُخرى، تُدغدغُ كاهلُنَا المُتعب.!
زغردتْ الطبيعة وقابلتنَا سوياً
تشنّجَ شظفُ السنينِ وتحولَ الحزنُ إلى بسمةٍ
تدلَى من أبي شخصاً لا أعرفه
وأنبت العَطَب عقاراً يُشفينا من أمراضِ الماضي.
#عفاف حسين الخطيب.