قصة قصيرة
سركيس
ميسون أسدي
شاركت اليوم في جنازة “أم سركيس” الأرمنية، حيث تمّ نقل جثمانها مباشرة من المستشفى إلى مقبرة الأرمن، بمشاركة أبناء بيتها وخوري الأرمن فقط، وذلك بسبب جائحة الكورونا.
في نهاية المراسيم والصلاة على جثمانها، أكّد الخوري أهمّية ترميم سور المقبرة الآيل للسقوط، وطلب من الحضور التبرع بالمال لتنفيذ ذلك الأمر، فأجابه الابن سركيس: لماذا نحن بحاجة إلى سور المقبرة يا أبونا؟ فالذين في الداخل لا يخرجون والذين في الخارج لا يريدون الدخول. ضحك الجميع ما عدا خوري الأرمن الذي دمدم وقال في عبّه: يا رب نجّينا.. فأجابه سركيس: هل ناديتني يا أبونا؟!
****
سركيس له لحية كثّة، شعر رأسه قصير ومنتصب كعُرفِ البغل، وقد منحته الحياة أسبابًا كثيرة ليكون متيقّظًا، ولكنّها لم تقدّم له أي سببٍ ليكون خائفًا. مذ كان طفلا، عمل سركيس في الأعمال الحرّة، فهو حدّاد وكهربائي وسمكري ودهّان وعامل بناء وترميمات وتصليحات، وإسكافي ونجار وبلاط ومعالج عن طريق الطاقة وغيرها من المهن الحرّة التي له ولع بها، فهو لا يرتوي، مُنظّم دقيق في عمله ومواعيده، وأمين في تعامله. كانت أجرته غالية نسبيًّا، لأنّه مهني بدرجات عالية، عكس الصنائعية في هذا الزمن، وعرف عنه بأنّه رجل شديد الحذر، يتمكّن وهو نائم من رصد الهمسات داخل بيته وخارجه.
يخدم سركيس يوم السبت في كنيسة الأرمن، ويشارك في مراسيم الصلاة كرجل دين ومساعد للكاهن، وهو عضو فعّال في نشاطات الجالية الأرمنية في مدينته وفي جميع أنحاء البلاد وخارجها.
اتقن سركيس اللغة الأرمنيّة والعربيّة، والعبريّة والإنجليزيّة، وعُرف عنه بأنّه صاحب نكتة. استفزت سخريته البعض، لأنّه كان ينطلق بلا حدود ومراقبة في تعليقاته الساخرة.
خلال عمله ككهربائي في أحد المصانع أرفقوا له مساعدا، شاب عربي في مستهل شبابه، كان الشاب كسولا ودائم التأفّف خلال النهار، وإذا طلب منه سركيس القيام بأيّ عمل، يصدر صوتًا حلقيًّا كهمهمة كلب متأفّفًا مناديًا الرب بقوله:
- يا ربّي…
فيتلفت سركيس صوبه ويقول له مازحا:
- أناديتني؟
فيجيب العامل:
- لا.
تنقضي ساعة أو أخرى، وإذ بالعامل الكسول متأفّفًا ثانية، وينادي بأعلى صوته صارخا كعواء الكلاب:
- يا ربي…
فيلتفت سركيس صوبه ويقول ثانية:
- أناديتني يا ابني؟
فيومئ العامل العربي إيماءة نفاذ صبر:
- لا.
في المرة الثالثة، انتبه الشاب لمداعبة سركيس بعد أن أستوعب النكتة فتوقف عن التأفف ومناداة ربّه.
*****
لسركيس ابنة جميلة جدًّا، وهي في سنّ الثامنة عشر، ومثلها مثل باقي بنات سنّها، عندما تغضب أو يستفزها أحد أو تفقد غرضًا ما تستاء من لبسها أو مكياجها، تتأفّف وتصرخ قائلة: يا ربي ما هذا وما ذاك؟
فيسرع والدها ويقول لها:
- أناديتني؟
وبعد عدة مرّات من مناداتها وسماع أجوبة والدها، تمل مداعباته وتصرخ:
- يا عذراء
عندها يكف سركيس عن اجابتها ويتوقف عن تهكمه.
****
تقدم النهار وصخب المدينة غزا أيام أسبوعها، إلا يوم السبت، لأنّه يوم عطلة رسمي للجميع، وقد استبدلت الجالية الأرمنية يوم الصلاة من يوم الأحد ليوم السبت، حيث يكون الجميع مرتاحين في بيوتهم، ولا يوجد أي عائق يمنعهم من المشاركة في الصلاة.
كان سركيس يتمشى في سوق الحي، وهو يلبس ثوب الكهنة وليس بثوب عامل التصليحات والترميمات، فرأته لولو، وهي سيدة كانت تنقر الكوسا والقرع والباذنجان لأصحاب حوانيت الخضار في الحي. استغربت لولو من منظر سركيس وفهم من ملامحها بما تفكر، فقال لها مداعبا:
- اليوم انا الرب.
لم يعجبها ما قال، خاصة وأن لولو سيدة عربية متدينة جدًّا، ولا تنقطع عن الصلاة في أيام الآحاد؟
فقال لها ثانية:
- قولي يا رب.
فصرخت بغضب أشد قوة من الريح:
- لن اقول لك ذلك.
جلس سركيس في بيت أحد الزبائن لتصليح ماسورة مياه وتبدو على ربة البيت ملامح البراءة الوقار، حضّرت له ربة البيت فنجان قهوة وتحدثت معه قليلا، ثم نادت زوجها وقالت “يا أبا فلان قم من فراشك، إن الزلمة سركيس ينتظرك”، فرشف سركيس من فنجان قهوته وقال لها بملامح هائجة:
- شكرا لك سيدتي لأنك ناديتني زلمة.
- ولم تشكرني؟ أجابت السيدة.
- لأن هذه أول مرة يناديني حدا زلمة.
****
جلس سركيس وصديقه أرام على قارعة الطريق وسط ضجة الحياة اليومية وخطواتها الطبيعية، بقرب دكان الأدوات المنزلية في الحي، كان أرام بخيلا، وشهد من حوله ببخله، يحرم نفسه من ملذّات الحياة، حتّى الطعام والشراب يقترب منهم فقط ليبقى على قيد الحياة لا غير. يوفّر أمواله ويبقى حزينًا طوال الوقت وقلقًا على مستقبله، ويقوم بإضاعة وقته من أجل توفير المال وتكديسه، وكان يحرم زوجته من مستلزمات البيت.
شكا أرام لسركيس، بأن أحد معارفه الأرمن بعد أن أصبح غنيًّا بات لا يلتفت إليه، حتى أنه يستكثر عليه كلمة مرحبا، نظر إليه سركيس وهو يمسح العرق عن عنقه بمنديله دون أن يحول نظرته عن نقطة غير محددة، كمن ينظر إلى سفينة تمضي، وقال:
- وما العيب في ذلك يا أرام؟ هذه طبائع البشر، ولو اغتنيت أنت وفزت بعشرة ملايين دولار، فلن تقول لي مرحبا أيضا، ولن تجلس بجانبي على قارعة الطريق.
فقال أرام وهو يقضم اظافره:
– يا رب ارحمني من هذا اللعين.
فرد عليه سركيس:
- لن احميك من أحد!