ولادة جديدة
لقد ولدت مجدداً، أطلقوا عليّ اسماً آخر، ومنحوني هوية جديدة مختلفة عما امتلكتها سابقاً، لم أكن أهمية كبيرة لاسمي في حياتي السابقة، وذلك يعود لأنني عشت بأرضية مخملية كانت تعيدني إلى مدرجات الفانتازية الخارقة.
لم يهم كثيراً أن كنت علي أو عيسى أو حتى يعقوب، كان يكفي أن أشعر بأنني إنسان يعود إلى منزله في المساء دون أن تصطك أسنانه من رجفة ظالمة، أو ركلة ضمير مخزية، فأنا الآن إنسان جديد لا أرضية عظيمة لي، ولا أحد يعير أهمية لاسمي الثلاثي ولعائلتي العريقة، لا معارف، ولا حكايات عشائرية تافهة، أظنني نجوت بطريقة خارقة من ذلك.
وكما أنني ولدت كبيراً لم أمر بمرحلة الطفولة قط، أظن أن الحيوات المتجددة تحمل في حوزتها قوانين مختلفة أيضاً كأن يمر شريط حياتنا من الكبر إلى الصغر، نكون كباراً ثم إلى مرحلة الشباب وبعد ذلك نُعايش الطفولة.
أكتبُ الآن آلام الكبار على الماء وخيباتهم، والأعظم من ذلك شعورهم بالوحدة وإساءة أبناءهم إليهم بعد سنّ معين. أتقاسم طعامي مع العصافير والقطط في الأزقة، لقد انفجرت سابقاً من كثرة الأرغفة التي ابتلعتها ساخنة ولم أستفد من ذلك قط سوى أنني شعرت أنني حمل ثقيل على نفسي وعلى الحياة…
وأتقنت مشاعر الندم تماماً على انسحابي من العلاقات الإنسانية بغرور لا يضاهى، كنت أظن أن الكبرياء قد انتصر! وكنت مخطئاً دون شك لأنني في كل مرة خسرت خيوطاً من دائرة بشريتي، كما إنه هناك صغار في هذا الحي ينادون علي «بالعجوز المقرف»، ويسخرون لساعات من عكازتي، ولكنني لا أشعر بالقهر لأجل ذلك؛ لأن ذلك لن يغيّر شيئاً من قاعدة العمر، والأهم من ذلك يقيني في أنني سأعود طفلاً غداً وسأتقبل مَن هم على شاكلتي، وأنظر إليهم من آفاق وجدانية أوسع، وأتفهم جيداً آلام الروماتيزم الشديدة، وكأن لهيباً من النار يشتعل بعظامك.
كل ليلة أشعل القنديل، وشيء من جمود الأطراف يحيط بأعضائي، وكأنني أصاب بالشلل، وأتذكر ضرائح مَن لا أعرفهم، وكنت قط دفنتهم بيدي ولا أعلم بالضبط ما هي صلتي بهم، إلا أن ذلك مؤلم لدرجة كبيرة كمثل أن تضع إصبعك الجريحة في إناء ماء مالح، أو أن تقتلع سنّاً ملتهباً دون مخدر، أو أن تعاني من أزمة شقيقة حادة فتجثو باحثاً عن مكان تضع رأسك فيه أو رأسك يُخلق نفسه بداخله!
وكل ذلك لأنني أمر بشريط الحياة بالمقلوب، ربما غداً سأعي الحقيقة، وسيكون الألم قد خفّ تماماً؛ ويعود ذلك لأن قدرة الأطفال على النسيان تكون أسرع من الكبار، ولأن جلّ اهتماماتهم متركزة على أشياء أخرى!
كما إنه على حائطي صورة لرجل حزين بعينين ساكنتين، وفم معقوف، وحاجبين جبليين خاليين من أيّ روح، فقط خطوط بسيطة من القهر تعلو الخدّين، وأظنّ أنها بداية تكوين التجاعيد بعد صدمة كبيرة أو هكذا يخيل لي، أشعر بالغبطة لعدم وضوح بعض الجوانب لي مثلاً: مَن أبي؟ وأين أمّي؟ وماذا عن عائلتي؟
فغداً يعود الأموات منهم إلى الحياة، والغائبون إلى الديار بالتدريج، وتعود الحقائب، كم هي رتيبة وحزينة، ولكن سيكون أكثر بهجة لأنه دائماً كانت الأمور في البداية جيدة ثم تسوء بالتدريج نقطة تلو نقطة إلى أن تنعكف الذات الإنسانية على نفسها.
أشهر وسنوات مرت سريعاً، وجدتني أباً لا بأس به لطفلين، وزوجاً لامرأة أصيلة كما يُقال! وهذا يوحي بأنني رجل محظوظ لأنه هُناك مَن يصون كياني ويهتم لأطفالي، أما عن الآلام التي كنت أشعرها أصبحت شبه منتهية، ثم شيئاً فشيئاً عدتُ إلى الحياة البدائية، كنت أرعى قطيعاً من الماشية على رأس جبل، وكان في حوزتي الكثير من التين والعنب المجفف، ولدي والدة تهتم بمنزلنا الترابي الدافئ، ووالد يزرع الحقل ويسقيه، وكنت طفلاً ألهو وألهو بصخب، وكأنني لن أموت غداً، وكأن الحلم والبغاء عنصران يخلّدان في براثن هذا العمر.