عنان عكروتي
يمكن القول بأن الأسطورة هي الجزء الناطق من الشعائر البدائية ،الذي
نماه الخيال الانساني واستخدمته الآداب العالمية، واتخذت من التجسيد الفني وهو لغة الشعر الحق_وسيلتها للتعبير عن كل خلجة من شعور وكل خاطرة من فكر في تلقائية عذبة محببة تنطوي على إيمان عميق بأنها تعبر عن ((حقيقة الوجود)).(1)
ويتأثر الشعر في نسيجه الداخلي وهيكله العام ،بتلك الأشكال التراثية التي تكاد أن تكون عالمية،والشعر العربي كغير نشأ في حضن تلك الأساطير.من هنا ستكون انطلاقتنا لدراسة نص (( شايلوك تروكيمادا ولحم التائب )) .وقد لفت انتباهي من خلال قراءتي لهذا النص الذي يعج بالاشارة الى عديد الملاحم في نسق تسلسلي بديع الحبكة الكبيرةالتي تميز بها الشاعر في معالجة الواقع من خلال الأسطورة وكأنه يتوسل للتاريخ أن يمنحه الدلائل لاثبات ما يقول.وقد مكن أسلوب القصيدة الحرة شاعرنا من صهر الدلالات الأسطورية والتاريخية في بناء النص و ابراز قوته .
أووه شايلوك ماذا لديكَ اليوم ؟
النص بدأ بطرح سؤال ليمنح فضاء رحبا لما يأتي بعده كاجابة عن هذا التساؤل ويسهل الربط بما يليه.وفي الحقيقة هذا السؤال هو سؤال انكاري.اجابته معروفة مسبقا لكنه يكشف شيئا ما عن حقيقة نفسية الشاعر التي فيها مرارة..ماذا لديك اليوم..هنا يتوضح جيدا أن ما سيسرده الشااعر يتكرر أوهو ليس جديدا فكل يوم هناك من هذه المرارة أو هذا الأسى الذي يحسه في عالمه.
كلُ الظروفِ تتجهُ إليكَ كاشفةً لك صدرها
فأرضع ما شئتَ و امضغ لحمي كيف تشاء
ألعق ظمأ الهواجرِ
لا شئَ يُشبهُ غابةَ الورق المُجفف في دمي
لا شئَ منذُ اللحظةِ الأولى لإسقاطي
و أنت معي و حتى الآن
أتت الاجابة التي تلت السؤال لتؤكد لنا ما سبرناه من نفسية الشاعر أو ما حاولنا استكشافه و التنبأ به. لكن قبل ذلك نتساءل من هو شايلوك؟ ما يعرف أن (شايلوك اليهودي) كان يسيئه أن يحصل الناس على قروض غير ربوية، وينافح لأجل منع حدوث مثل هذا العمل… بل أنه يستميت من أجل أن يقتص من (انطونيو) المسكين بطريقة بشعة ومخزية.. حاول من خلالها الرائع شكسبير أن يسلط الضوء على ظاهرة الربا ومساوئها وتورط اليهود فيها بشكل سافر.. وقد وجد نفسه غارقا في الديون اصلا لأنه اقترض بفوائد ربوية لأجل فرقته المسرحية!!(2)
واليوم في عالمنا لدينا آلاف من شايلوك يتفننون في إلقاء صنارتهم للفقراء، حتى إذا ما علقوا بشباكهم خنقوهم وامتصوا دمائهم وحولواحياتهم إلى جحيم..ثم ماذا؟؟؟
كلُ الظروفِ تتجهُ إليكَ كاشفةً لك صدرها
فأرضع ما شئتَ و امضغ لحمي كيف تشاء
هذه اجابة شاعرنا عن السؤال:
ولمسلسل مستمر، الغني يزداد غنى والفقير يزداد موتا..
لا شئَ يُشبهُ غابةَ الورق المُجفف في دمي
لا شئَ منذُ اللحظةِ الأولى لإسقاطي
و أنت معي و حتى الآن
وضع بائس جدا وحالة من اليأس ..اليوم مثل الغد ولا جديد تحت الشمس
تروكيمادا
توماس دي تروكيمادا وهو من أصل ماراني وأصبح رمزاً لقاضي محاكم التفتيش الذي يستخدم أدوات التعذيب لإرهاب ضحاياه. هذه المحاكم التي أسسها البابا جريجوري التاسع عام 1233 وكانت مهمتها التفتيش والبحث عن الهرطقات الدينية بين المسيحيين وكان الحرق فيها هو العقوبة القسوى.(3)
تروكيمادا
يكشفُ عن نفسهِ بينَ خطوطِ الوقتِ
يعزفُ نفسَ اللحنِ المُبكي المتباكي
للسناجبِ القاضمة للضوء
انه تروكيمادا جديد في عصرنا يكشف عنن نفسه ليمارس علينا قمعا جديدا تحت غطاء ديني .انه التاريخ يكرر نفسه عندنا بشكل مأساوي مبكي لتصبح السمسرة بالدين والركوب على ثنائية الكفر والايمان هي التجارة الرائجة والأسهل للوصول الى المتلقي البسيط الذي يشقى يومه وجزء كبيرا من ليله ليوفر لقمة كريمة ولا يصل.هذا الانسان الذي كبلته لقمة عيشه فلم يعد يجد وقتا للتفكير في شيء آخر وصار استلاب وعيه بهذه السمسرة الرخيصة سهل جدا.انهم السناجب القاضمة للضوء المعارضين لكل فكر نير والمتسلطين على آراء الآخر اذا اختلفت مع طرحهم لينعتوه بالكفر والزندقة ويقيمون عليه الحد
بكل بساطة.
لكن رغم كل هذا الالاستبداد الديني والتخلف الفكري والقهر المسلط على المفكرين :
لم يعتد جيفارا أن يطأطئ رأسه
لم يُطفأ جبلُ النمرودِ ناره
لم تخبو شعلةَ الأوليمب
لم يُعَكرْ صفوَ كلماتكَ يا خيرَ الخلقِ -بلا استثاءِ – محمد
لنْ يُمحا ذِكرُكَ لنْ يَسكُنَ وحيُكَ
و إن سطا بعض القردة
فالرؤيا أوضح
و الفكرةُ أنقى
مازال هنالكَ بعضُ الوقتِ
الهارب من تابوتِ الإغماء
مازلنا صامدين..فجيفارا لم ينحني لجلاده,و نار جبل النمرود لازالت صامدة ,شعلة الاولمب لم تخبو منذ اشتعالها .
وأنت يا خير خلق الله محمد لازال ذكرك رغم كل شيء.لازالت شريعتك تبث النور في العالمين.وان تجبروا وان طغوا وان مارسوا الاستبداد ما نؤمن به أقوى وأبقى .وما نناضل من أجله سنظل ننادي به نحفر في الصخر طريقا .نشق البحر ولن نتراجع في سبل الفكرة الأسمى والعالم الأجمل
هنا في هذا المقطع بالذات نلاحظ تحول فكري خطير: من المرارة وشبه اليأس في ما سبق الى قوة الارادة والعزيمة والصمود رغم المخاطر ورغم كيد الكائدين.وهذه هي الرسالة الحقيقية لكل كاتب أن يكون في المقدمة ,رمزا لهذه الأهداف النبيلة يقود بها الجميع الى الفكرة الأجمل.والشاعر هنا يؤكد على النموذج المحمدي ويثبت أنه متمسك به ينير قلبه حتى وان شكك المشككون.
هل يُغمضُ عينيهِ الوعلُ و يستلقي
و الفرصةُ أدنى من قرنيه
فلينهش من لحم الجسد الناعم هذا الذئب
فالفرصة لن تتكرر
و صِغارُ النعجةِ تمرحُ بأمان
و الراعي في حالةِ إسترخاء
يمضغُ ورق القاتِ
يقتاتُ بقايا عجزِه
هنا بتقنية راقية جدا فيها ألم وحسرة وسخرية من هذا النائم الذي لا يستيقظ ينتقل الشاعر ليضع اصبعه الداء .هذا الشعب النائم الذي لا يستيقظ والأعداء يتربصون به من كل الجهات.هل يفوتون هذه الفرصة وصغار النعجة تمرح بأمان.هل أن الوعل غبي حتى لا يقتنص فريسته..هذه غريزة فيه ولن يتراجع.الفرصة لن تتكرر الشعب مشغول بالتهليل للحاكم الذي هو في حالة استرخاء .عيناه غافية عن ما يدور حوله والغاب قانونها معروف ولا يتغير.
يمضغ ورق القات
هنا يمكن أن نقول أن الشاعر خرج من النطاق الضيق بالنسبة للقات فهو ليس عودة للتقهقر في الواقع اليمني فحسب و انما هو رمز لكل حالات التوهان الاراادي او الوااعي من قبل الشعوب .و باعتباره يمنيا مثقفا واعيا يرى أن ما يقاسي منه الشعب في وطنه من تجهيل وتغييب بسبب هذه الآفة التي تستهلك عقله لتزيد من مأساته و عجزه يتألم منه الجميع في مجتمعات أخرى بأشكال أخرى .فالمثقف يجب أنيكون مرآة عاكسة لهموم الون وفي مقدمة الصفوف من أجل الغد الأفضل.
سيقول الهارب من معتقلِ مرابي الأسواق
أحملُ بينَ ذراعي
طفل خطيئتكم
كُنتُ هناكَ أُمارسُ كلَ طقوسَ الكُفرِ
أتعبدُ للنار
أجادلُ عن صدقِ هويتنا
و أتمتم أذكار بلادتنا صبحَ مساءٍ بخشوعٍ تام
يقتلنا وجع الإستفهام و نُغمضُ أعيننا
نشربُ قولَ الزور
نعُبُ قواريرَ الفسق المتراكم منذُ عصور
و نرآئي كي لا نصبح موقوفين بتهمةِ
سبِ هُبل
و نحطُ بقايانا في أي مكان
مغرورون بدعوى شعبِ النار
من هو طفل الخطيئة؟
ربما هنا اشارة الى السيد المسيح وكيف أتت السيدة مريم العذراء بطفلها تحمله بين يديها الى كنيسة القيامة.
لكن الطفل هنا هو طفل الخطيئة.المصلوب بذنبكم.هذا اشارة واضحة وقوية على الراكبين على الدين الذين هم في الحقيقة من أشد خلق الله فسادا.لقد كانت هذه الرحلة تشف في ذات الشاعر عن معاناة مرة في استكشاف سرائر أمته ، وما يسري في أعماق كيانها من وهن وتصدع .
حتى زار القبو
و أهدانا شيئاً من قبس الله
و سماواتٍ أُخرى و نجوم تهدي
و معالمَ تشرقُ فينا
قبل أنْ تسقطَ في مُلكِ الكاهن
للحق طريقٌ واحد من أولِ آدم حتى الآن
و الحبُ طريقُ اللهِ فلا تنسوه
و غبيٌ من باعَ الباقي بالفاني
نثرَ عبيره و تزمل بالنور و غاب
و بقيتُ أراجع في نفسي
أتلمس بقايا النور على شجر الأحباب
و أتيتُ إليكم أحملُ
طفلَ خطيئتكم
و أبرأ من ذنبِ معيتكم
يا سادةَ كفري
قول صبأ الزنديقُ
و يا سادةَ كفري اللآخر قولوا تاب
هنا أروع ما اختتم به الشاعر قصيدته .غارق في صوفية جميلة لا تنتهي.كما أنه أثبت أنه على النهج الصوفي الذي هو حركة حياة وتماس مع الواقع حيث ينقي الانسان من الشوائب . وفي هذه القصيدة كما في أغلب القصائد الحداثية تطور في استخدام النهج الصوفي الذي خرج من اطار فلسفي مغال فيه الى صياغة جديدة في اطار تجارب كلية أو جزئية وفي شكل استشهادات.وقد مثلت استعارة الشصيات الصوفية ( وأبرزها على الاطلاق الحلاج ) مواجهة حقيقية بين القارئ والشاعر في القصيدة الحديثة.
لقد استغل شاعرنا ما تمتلكه عناصر الأسطورة من ايحاءات ورموز وأثرى بها نصه فخرج لنا تحفة فنية متكاملة تترك بصمة في الشعر العربي المعاصر.
المراجع الداعمة للبحث
(1) كتاب الأسطورة في الشعر العربي الحديث
(2بسبلة العري
(3)اليهود واليهودية والصهيونية د عبد الوهاب المسيري
المجلد الرابع الجزء الثالث الباب الثالث مدخل محاكم التفتيش