بقلم: غريب على الخليج
هذه المقالة مستمدة من رسالة بعثها الأستاذ (غريب على الخليج) إلى صديقه صابر بن حيران في البصرة, والرسالة تعبر عن مشاعر القبائل النجدية, التي استقرت في ضواحي المدينة, وأسهمت في تفعيل أنشطتها التجارية والملاحية والزراعية والثقافية والاجتماعية, بدأت الرسالة بالتحيات والتمنيات, وانتهت بإطلاق الحسرات والزفرات على ما آلت إليه أحوال البصرة . .
تقول الرسالة: أخي صابر, لقد سألتني قبل شهور عن إمكانية العودة إلى الوراء, والبحث في ذاكرتي النجدية عما سجلته عيناي من لقطات نادرة في ربوع العراق وتربته الطاهرة, التي ضمت رفات أجدادي وآبائي, الذين قطعوا الصحاري والبوادي المقفرة بالطول والعرض قبل أن يستقر بهم المقام على ضفاف شط العرب. .
كانت البصرة سخية في تعاملها معهم حين وفرت لهم العيش الرغيد والمورد المديد في تلك السنوات العجاف, التي عصفت بفيافي نجد الشحيحة قبل اكتشاف الذهب الأسود في مخابئها. .
كان النجديون يترددون على البصرة, وكانت لهم فيها بيوت ووشائج ومصالح, فتجذرت علاقاتهم بها منذ القدم, ومن غرابة أطوارهم إنهم حفظوا مسارات الهجرة نحو الشرق على ظهر القلب, وتجاهلوا الاتجاهات الأخرى, فالشرق عندهم هو دالتهم لأرض السواد, ومنارتهم لمصدر الخير والعطاء, حيث الماء والخضراء والعشرة الطيبة, فسارت قوافلهم شرقا تنحر البيد حتى أناخت إبلهم في ربوع هذا البلد المضياف, الذي لجأ إليه أسلافهم في القرون المجدبة, فامتزجت أصولهم العدنانية والقحطانية في نسيج الرافدين, حتى صارت التركيبة العشائرية العراقية صورة طبق الأصل للقبائل النجدية والحجازية, من دون أن يفرطوا بعاداتهم أو يتنازلوا عن تقاليدهم, سواءً من استوطن منهم في نينوى أو الأنبار أو ديالى أو السماوة, وبغض النظر عمن احتفظ بمذهبه (السني), أو من أعلن (التشيع), فجميعهم يرتبط مع بعضه البعض بروابط متينة يتعذر فصمها, فالكرم والنخوة والشهامة وسمو الأخلاق الرفيعة هي السمات البدوية النجدية, التي توارثتها الأجيال جيل بعد جيل, ثم توالت الهجرات النجدية صوب حاضنتهم الشرقية, فاتجهوا إلى الناصرية, وسوق الشيوخ, والخميسية, والعمارة, وقلعة صالح, وضواحي البصرة الفيحاء, لكنهم اختاروا موقعا مشابها من حيث المعالم الجغرافية لديارهم النجدية, فكانت مدينة (الزبير) هي الملاذ المثالي للاستقرار, وهي المحطة التي استقطبت طلائع الهجرات المتدفقة شرقاً, فشيدوا بيوتهم على الطريقة النجدية, وصمموا طرقهم وأسواقهم ومساجدهم بالقياسات والأبعاد الفولكلورية الراسخة في الذاكرة الديموغرافية العربية, فكان العراق خيمة وارفة الظلال, نشر فيئه ليأوي القادمين إليه من قلب الجزيرة, فاحتضنهم بعد طول عناء, ليجدوا في كنفه الأمن والأمان والخير كله في بلد فتح لهم ذراعيه, ورحب بهم حيثما تنقلوا فوق أرضه الطيبة وبين جداوله العذبة, فاكتسبوا صفة المواطنة, وكانوا في منتهى الوفاء للعراق وأهله. .
شاءت الأقدار أن أعيش شطرا من طفولتي في مدينة (الزبير) بين مضارب عوائها النجدية العريقة, ولا يسعني المقام هنا استعراض القبائل والأسر الرائدة, ولست بصدد الإشارة إلى أسماء وجهائها, ولا أريد أن ابخس حقهم, فالحديث عنهم ذو شجون. لكن ذاكرتي مازالت ملتصقة بمدينة (الزبير), التي كانت عامرة ببيوتها الطينية, ومناطقها المقسمة تقسيما إداريا متقنا على غرار البيوت النجدية, في دور واسعة خصصوا فيها أماكن للرجال (الديوان), وأخرى للنساء (الحرم), ربطوها مع بعضها البعض بفتحات صغيرة تسمى (النقبة) تتزاور من خلالها النساء, وكأن بيوتهن كلها مرتبطة ببيت واحد. .
ألفت في طفولتي خشونة الطبيعة النجدية القاسية, فكانت قوة التحمل, والصبر على المكاره, والظروف الصعبة من المفردات الحياتية التي لابد لنا من التعايش اليومي معها, وتسري هذه القواعد على أبناء الأسر الفقيرة وأبناء الأسر المعروفة بثرائها, فلا إسراف ولا بذخ ولا ميوعة ولا تكاسل ولا تردد, وهكذا كان التأقلم على الضبط والانضباط هو النهج التربوي الصارم في تأهيل الصغار حتى يصبحوا كباراً. .
في تلك الأيام أسس العلامة الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله) مدرسة النجاة عام 1920, التي كانت نواة العلم والتعليم في المدينة, وكان الشيخ ناصر بن إبراهيم الأحمد من الذين تولوا إدارتها, كان (رحمه الله) قمة في الخلق والعلم والدين والزهد والورع والتقوى, فتخرج في مدرسته آلاف الطلاب, من الذين تميزوا بالنبوغ والتفوق المبكر, وبرعوا في فنون الخط العربي وقواعده, والويل كل الويل لمن كان خطه رديئا في ذلك الزمان. .
التحقت بالمدرسة في السادسة من عمري, وكان التلاميذ يتصرفون وكأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة, اما الأساتذة فكانوا نخبة من المعلمين الأفاضل, أذكر منهم عبد الرزاق الدايل, أحمد الخميس, علي السبيعي, أحمد العرفج, عبد الله المزيّن, يوسف الجامع, جاسم العقرب, وعيسى الشرهان, اخذوا على عاتقهم النهوض بمهمة التربية والتعليم على الوجه الأكمل, وكانوا متشددين جدا في تعاملهم الحازم مع التلاميذ, إلى المستوى الذي تمسكوا فيه بمعايير العقاب والثواب حتى مع أقرب الطلاب إليهم, وكنا جميعا نخضع لرقابة إدارة المدرسة وتوجيهاتها السديدة, وننظر إلى أعضاء الهيئة التدريسية بتبجيل واحترام لا يخلوا من الخوف المشوب بالرهبة, فكم من مشاغب أساء التصرف فاستحق العقاب بالفلقة, وما أدراك ما (الفلقة) ؟, وانهالت على قدميه ضربات الخيزران ليكون عبرة لمن اعتبر. .
لم تكن في مدارسنا كهرباء, ولا ماء بارد, فالماء نشربه من الزير, الذي يملأه السقا, ويكرع منه الطلاب من دون تذمر, الثلج وقتذاك من معالم الترف, وكان الماء يجلب إلينا من آبار (الدريهمية). .
كان التعليم بسيطا, بدائيا, فقد كنا نحمل بأيدينا الألواح السوداء, ونكتب عليها بالطباشير, إلى أن تعلمنا الكتابة بالريشة, ومن لا يجيد الكتابة بخط واضح, ولا يلتزم بقواعد الخط والإملاء, لا يسلم من لسعات المسطرة على كفيه, كنا نحسب ألف حساب للعقوبة القصوى, التي يخشاها الطلاب, وهي السجن الانفرادي في الغرفة المظلمة, التي كان يهددنا بها أستاذنا عيسى الشرهان (رحمه الله), كانت بالنسبة لنا أشبه بزنزانات سجن الباستيل, وفي يوم من الأيام وقع المحظور, فتشاجرت مع أحد الطلاب, بسبب تماديه في تصرفاته الاستفزازية الطائشة, واستيلاؤه على (الكعاب), و(الخرز) الذي كنا نلهو به في شوارع الديرة, فاشتبكت معه في مشاجرة دامية, وأوسعته ضربا وركلا, رغم انه كان اكبر سنا, وأطول قامة مني, فصدر القرار القطعي بالسجن في الغرفة الرهيبة, التي كان يلفها الظلام الدامس, ومكثت هناك حتى نهاية الدوام الرسمي, ولم تفلح توسلاتي وابتهالاتي ووعودي بعدم الشجار. .
كانت الإشاعات تتردد في أرجاء المدرسة عن الحشرات القاتلة والعقارب والأفاعي والعناكب القابعة في تلك الغرفة, ما أشاع الرعب في قلبي الصغير, فاقتادوني إليها, ورموني بداخلها, وأوصدوا خلفهم الباب, التصقت بجدار الغرفة, أتلفت يمينا وشمالا خشية أن تلدغني أفعى, أو يلسعني عقرب, كانت مخيلتي ترسم في الظلام أشكالا من الأفاعي والعقارب والعفاريت, أراها ملتصقة بقاع الغرفة, تتربص بي, وتتحين الفرصة للانقضاض عليّ, كاد الخوف يقتلني وسط الظلام الدامس والمشاهد المرعبة, ظللت ملازما للجدار مدة طويلة, ظننتها فترة أبدية, حدقت ثانية بأشباح الحشرات بعيون ملؤها الخوف والترقب, فلم أشاهد شيئا يتحرك, فاطمأن قلبي, فبادرت إلى لمس شبح العقرب, ولدهشتي وجدته سلكا ملفوفا, اما الأفاعي فكانت قطعا من عقال عتيق, حينها تنفست الصعداء, وجلست مستندا على الجدار, أضحك من خوفي, حتى سمعت جرس الدرس الأخير, فجاء الأستاذ (عيسى) ليفتح الباب, ويطلق سراحي. .
تقاطر عليّ الطلاب, التفوا حولي, يسألونني عن ساعات الرعب, وكيف أمضيتها ؟, فأخفيت عنهم الحقيقة, وأخبرتهم إن الغرفة كانت مزدحمة بالأفاعي والعقارب والعفاريت, لكنها لم تقترب مني لأني حصنت نفسي بقراءة المعوذات وآيات حفظتها من سورة البقرة, فصدقوا قولي, وانطلت عليهم الحكاية, احتفظت بهذا السر قرابة نصف قرن أو أكثر. .
كان النظام المدرسي صارما متشددا, فقد حدث ان الصف الذي كنت فيه مشهورا بكثرة الشغب والشجار, ومعروفا بإهمال الدروس, واستمر الحال على ما هو عليه على الرغم من التحذيرات المتكررة, فصدر قرار العقوبة الجماعية من الشيخ ناصر الأحمد, وكان يقضي بعدم السماح لنا بمغادرة المدرسة إلا بعد الساعة الرابعة عصراً, وعادة يغادر الطلاب في الثانية عشرة ظهرا, كان العقاب جماعيا, شمل الطلاب الملتزمين وغير الملتزمين, لكننا تقبلناه صاغرين, فتخلفنا عن وجبة الغداء, التي كانت عندنا الوجبة الأهم, كان من بيننا الشيخ جابر عذبي الصباح (رحمه الله), وكان من التلاميذ المسالمين المعروفين بدماثة الخلق وحسن المعاملة, كان الشيخ أطولنا قامة, وأكثرنا حكمة, لكنه التزم الصمت وحبذ تنفيذ العقوبة من دون اعتراض, كان الجوع كافرا رغم ان طعامنا في البيت لم يكن يتعدى الرز (التمن) والمرق والخضروات واللحم, لكنها كانت تكفي لإخماد ثورة بطوننا الخاوية. .
فجأة. . وفي تمام الساعة الثانية ظهرا سمعنا البواب (حميدان) يتحدث مع بعض الأشخاص, ثم يفتح الباب ليدخل خادمان من خدام آل الصباح يحملان صينيتين مغطاة بالخوص, ويضعانها أمامنا, فتهافتنا للحصول على مواقع متقدمة, فالوجبة كانت غنية بما لذ وطاب من الدجاج المقلي, والتمن العنبر بالزعفران واللوز والزبيب والسمن اللذيذ, فانهالت الأيادي على الطعام كما تنهال الضباع الضارية على الفريسة في وجبة برمكية لم نتذوقها في بيوتنا. .
كانت الألفة والمحبة تسود تصرفات أهالي (الزبير), الذين تربطهم أواصر العلاقات الحميمة, يتجلى تواصلهم الاجتماعي في الأفراح والأتراح, كانت الليالي الرمضانية من أجمل الليالي, بما عرف عنها من خيرات وبركات يشترك فيها الغني والفقير على مائدة واحدة, يتسابق الجيران على تقديم أشهى الأطباق, كانت الهريسة المزينة بالدارسين من الأطباق التقليدية الشهية. .
في المساء يجتمع وجهاء (الزبير) في دواوينهم, تمتد جلساتهم لساعات متأخرة من الليل, يتناولون فيها بعض الوجبات الخفيفة من الزلابية والبقلاوة والسمبوسة مع المحلبية, ويتسابق الأهالي في أول أيام العيد بإخراج الطعام من بيوتهم, يفرشون الشوارع الفرعية بالسجاجيد, ويقدمون الطعام اللذيذ بعد صلاة العيد, فيتوافد أبناء (الزبير) للمشاركة في هذه المظاهر الاجتماعية, التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الخير العميم, الذي كان من عطايا العراق ورحيق تربته الطيبة. .
كانت حياة النجديين الذين سكنوا (الزبير) خالية من التعقيدات والمشاكل, فمن النادر أن تحدث مشاجرات تستدعي تدخل عناصر الشرطة, فالكل حريص على سمعته وسمعة عائلته, وبطبيعة البدوي في ماضيه قد تحصل بعض الصدامات بين المناطق المتجاورة, حيث يقوم البعض بالهجوم على الحارة القريبة لحارتهم, كأن يهجم شباب محلة (الشمال) على شباب محلة (الرشيدية), فتندلع الاشتباكات بالأيدي, وتتطاير الحجارة من النبالات والمقاليع (جمع مقلاع), وينهال الشباب على بعضهم البعض بالعصي والهراوات, فتسيل الدماء من رؤوسهم, في معارك محلية تسمى (حرابة), بيد ان الملفت للنظر إن المتخاصمين سرعان ما يعودون لأجواء التآخي واللعب البريء بقلوب صافية, وربما كانت تلك (الحرابات) من رواسب الغزوات البدوية المنبعثة من تراث القبائل العربية في الكر والفر. .
ختاما: لا يتسع المقام هنا للتعمق في سرد المزيد من التفاصيل حتى لا يصاب القارئ بالملل, وسأحاول العودة ثانية لتحرير ما اختزنته الذاكرة من ذكريات ومواقف سجلها أبناء نجد بين جنبات هذا الفردوس العراقي الجميل, ودمتم بألف خير. . .