لماذا لا ينتصرُ الخيرُ على الشرّ دائمًا، كما في الروايات الرومانسية والحكايا الفولكلورية؟ فكثيرًا ما يصدمُنا الواقعُ بانتصار الشرّ، فنهمسُ في حسرة: “المؤمن مُصاب”. ولا ندري هل نصدّق الروايات ذوات النهايات السعيدة، التي تؤكد المنطق بانتصار الخير والفضيلة، أم نخضع للواقع المرير الذي طالما ينحسرُ فيه الجمال، وينتعشُ القبح؟! الجدُّ المصريّ الصالح يحلّ لنا هذا اللغز.
تقول الأدبيات المصرية إن “تحوت”، ربَّ الحكمة عند المصريين هو المسؤول عن إدارة الصراع بين الخير الشرّ في العالم. وظيفتُه مساعدة طرفي الصراع في حياد ليستمر الصراعُ دون غالب ولا مغلوب؛ فيعالجُ المهزومَ منهما، لينهضَ ويستأنفَ معركته الأبدية. فلا ينتهي من الأرض ذلك الصراع السرمديّ. وهذا يفسِّرُ سرَّ التوازن المدهش بين الحق والباطل في الدنيا، ويؤكدُ لنا، بكل أسف، أن الشرّ لن ينتهي من العالم، إلى أن يستردّ اللهُ الأرضَ المحزونةَ بمن يسكنها.
أكتبُ عن ذلك العالِم المصري “تحوت” لأن غدًا 11 سبتمبر هو غُرّة الشهر المُسمّى باسمه (توت) في التقويم المصري القديم، الذي بدأ قبل اثنين وستين قرنًا من الزمان. وهو عيدٌ وطنيٌّ عظيم يخصُّ المصريين جميعًا (وليس عيدًا مسيحيًّا كما يظنُّ غيرُ العارفين). فهذا التقويم العريق موجودٌ قبل نزول المسيحية نفسها بأكثر من 4000 سنة. وأرجو أن تحتفل به مصرُ رسميًّا في مقبل السنوات.
غدًا بداية عام 6262 على الروزنامة المصرية، التي يحفظُ شهورَها كلُّ مزارع مصري؛ إذ يحسبُ مواعيدَ غرس البذور وحصاد المحاصيل وفق شهورها الثلاثة عشر: (توت، بابة، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرا، النسي ). هو عيد “النيروز”. مُشتقٌّ من الكلمة المصرية القديمة: ني-يارؤو، وتعني: (الأنهار). لأن شهر (توت/ تحوت) الذي يبدأ غدًا، يتوافق مع موعد اكتمال فيضان النيل (حابي)، أصل الحضارة والحياة عند سلفنا المصري الصالح.
وعلينا ألا نخلط بين عيدنا المصري “النيروز”، وعيد “النوروز” الفارسي الكردي، الذي يعودُ إلى الكلمة الفارسية: (نو-روز)، وتعني: “اليوم الجديد”، ويتوافق مع بداية فصل الربيع 21 مارس في التقويم الميلادي.
أما سبب تحوّر الكلمة المصرية: ني-يارؤو، إلى “النيروز”، فيعود إلى الإغريق الذين دخلوا مصر غزاةً عام 323 ق.م. وكعادة الإغريق اللغوية في إضافة حرف (س) إلى أسماء الأعلام، فقد أضافوا للكلمة القبطية حرف (س)، فتحولت كلمة (ني يارؤو) إلى (نيروس)، التي تَحوَّر نطقُها مع الوقت إلى: (نيروز).
بطلُ المقال، هو العالم المصري الكبير “تحوت”، أو “توت” كما اشتهر، ويعود إليه الفضلُ في ابتكار التقويم المصري القديم، ولهذا تبدأ الشهور المصرية باسمه (توت) تخليدًا لقامته الرفيعة في العلوم والمعرفة والفلك واللغة والرياضيات والحساب والألسنيات. وهو مخترعُ حروف الأبجدية الهيروغليفية التي خلّدت حضارتنا الثرية القديمة؛ لهذا يُعرف كذلك بـ ” ربّ القلم”؛ فكرّمه المصريون القدامى ونصّبوه إلهًا للحكمة والمعرفة في الميثولوجيا المصرية، تقديرًا لعلمه الموسوعي الغزير. وتُصوِّره الجدارياتُ الفرعونية بجسم إنسان ورأس طائر “أبي منجل”. ويكون بهذا النظيرَ الذكوريّ للإلهة “ماعت” ربّة العدالة في أدبياتنا المصرية. “ماعت”الجميلة، يحتلُّ تمثالُها جدارياتِ جميع محاكم العالم: في صورة امرأة حسناء معصوبة العينين تمسكُ بيدها ميزانًا، هو “ميزان العدالة” الذي صار رمزًا للقانون والعدل في التراث الإنساني كافة. وأما عُصبة العينين فدلالة على الحياد التام للقاضية التي لا تنظرُ إلى وجوه الخصوم؛ حتى تحكم بينهم بالحق والعدل بعيدًا عن الأهواء والمنازع الشخصية. في المحكمة الأوزورية (نسبة إلى أوزوريس) التي يتم فيها محاسبة الموتى، كانت “ريشة ماعت”، رمزَ الضمير، توضع في إحدى كفّتي الميزان مقابل الكفة الأخرى التي يوضع فيها قلبُ المتوفى لحظة حسابه، كما ورد بالجداريات وكتاب “الخروج إلى النهار”. فإن ثَقُل قلبُ الميت، وهبطت كفّته عن كفة الريشة، كان المرحومُ مُثقلا بالآثام والخطايا فيُلقى به إلى الوحش الأسطوري “عمعموت”؛ حتى يأكله ويفنى، أما من خفّ وزنُ قلبه عن ريشة ماعت، فكان مُتخفّفًا من الآثام، فيحظى بالخلود في صحبة أوزوريس. أما من يقوم بحساب حسنات الميت وذنوبه ويدوّنها في دفتره، فكان الإله تحوت، أو توت، الذي نحتفل غدًا بعيده مع رأس السنة المصرية الجديدة.
غدًا الجمعة الساعة 3 عصرًا سنحتفل برأس السنة المصرية في رحلة نهرية من مرسا “حورس” بكورنيش روض الفرج، مع جماعة (حرّاس الهوية المصرية) بقيادة المثقف خبير علم المصريات الأستاذ “سامي حرك”، والدعوة عامة. سنة مصرية سعيدة، على مصر والعالم. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترم هُوية الوطن”.
ماذا قال تحوت عن -الشرّ- …. رأس السنة المصرية 6262
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا