الدخول إلى التاريخ عن طريق باب فيروز، هو ما اختاره الرئيس الفرنسي ماكرون، للتعبير عن مسؤوليته الرئاسية، أو عن موقفه إزاء كارثة مرفأ بيروت، فكلا الأمرين المسؤولية والموقف يؤشران إلى عمق ما يمكن أن يصنعه الوعي السياسي، في النظر إلى أهمية أن تتعالق السياسة بالسيمياء، وأن تتحول طاقة هذا التعالق إلى قوة ثقافية، تجعل من فيروز نظيرا رئاسيا، أخلاقيا وجماليا مع بيروت المدنية، ولبنان الأرز..
الثلاثي السيميائي ـ بيروت، فيروز، الأرز- تحولوا إلى نسق كبير، لا يضمر أفعالا تعبيرية مجردة وعائمة، بل يحمل تاريخا كثيفا من العلامات، التي تشبه عصي السحرة، حيث يتحول صوت فيروز إلى غيمات ماطرة، تغسل أثر الدم والرماد، وحيث يخرج ذلك الصوت مشبوبا برائحة البرد، ليكون دليلا للآتين، بوصفه طقسا صباحيا، تتسع له الروح، بعيدا عن تاريخ الأمكنة المسكون في ذاكرة الحرب وعربات الطوائف.
هذه الزيارة ليست عابرة بالمعــنى الدبلوماسي، ولا حتى بالمعنى التاريخي، أي التاريخ الاحتلالي، بل إنها تُســـوّغ تـــداولَ مستوياتٍ عميقـــــةٍ من القـــراءة الثقافيــــة، إذ تُحـــيل إلى اشــتباكات رمــــزية وجمالية بين فيروز ولبـــنان، ولتتبدى حمـــولات تلك الاشــتـــباكات، من خلال صورة فيــروز في الذاكرة اللبنانية، بوصـــفها رمــــزا رئاسيا للجمهورية، ودفقا عاليا للجـــمال التعبــــيري والوحدة التي تؤاخي الجميع، وصوتا يشبه البحــــر، يُعادل الطبيعة ذاتها، مثلما يُعادل ما يحـــمله تاريخ لبــــنان/ الوطن، من انكسارات وفواجع وحروب طائفية واحتلالــــية، التي جعــــلت من ذلك الصوت نداء رمــــزيا لاستدعاء فعـــل الوحدة والحب والتسامح، لمحو ما حملته ذاكرة السبعينـــيات من وجع دام، حين وقف المحاربون لحظة ما كانت فيروز تشدو للجميع، حيث «شادي» الذي يخصّ الجميع، والذي أخذته الحرب، وحيث مراثي الحب الضائع، والزمن الضائع، والبلد المُهاجر والضائع.
الرئيس الحرّيف
يدرك الرئيس ماكرون سرّ السحر الفيروزي، ورمزية وجودها الجامع، حيث ينكسر السياسي أمام الأيقوني، وحيث رئاسة فيروز تكون عابرة للرئاسات، التي لا تُغنّي، لذا ذهب إليها أولا، ليوحي للبنانيين بأنّ بناء الضمير اللبناني يبدأ من هنا، وأن إعمار المرفأ ينطلق من ذاكرة البحر الذي أنشدت له فيروز كثيرا، وأحسب أن هذه الرسالة قد وصلت! وأن «دارة» فيروز تحولت إلى مطارٍ ثان، يمكن أن يدخله الرؤساء دونما علاقات عامة، أو حرس شرف، أو موسيقى غليظة، أو حرس بوجوه حادة، إذ يبدو السّلم الصغير إلى غرفتها وكأنه سلّم موسيقي أو طريق للغيم، مثلما يبدو وجهها المشبوك بالسنين جادا ومبتسما، وكأنه أدرك خطورة المهمة الرئاسية التي تحملها، فهي رئيس آخر للبنان، وأنّ رؤساء الدول والحكومات يؤدون عندها فروضا من اللياقة والجمال.
الرئيس ماكرون- رغم صغر سنه وتجربته- لكنه وارثٌ جيد لتاريخ الثقافة الفرنسية، ما جعله يتصرّف بطريقة «ثقافية خالصة» ليوحي لمستقبليه ولمرافقيه، بأنه «حرّيفٌ» يعرف فيروز مثلما يعرف أديث بياف، ويعرف تاريخ الثورة الفرنسية، مثلما تاريخ المعرفة فيها، حيث يلتقي مونتسيكو مع جان جاك روسو، وحيث يلتقي رامبو وبودلير مع الشيخ هوغو، وحيث يلتقي سارتر مع ميرلوبونتي، وحيث يكون سان جون بيرس أكثر اشتباكا مع هنري ميشو ومع صلاح ستيتيه وأيف بونفوا، وحيث يقول لنا: تعلموا أن الرئاسة الحقيقية تبدأ من الجمال، وليس من «القبح» الذي يصنعه سياسيو الأزمات وجنرالات الحروب و«فقهاء الظلام»..
بيروت والرئاسة والموسيقى
خروج فيروز من عزلتها لاستقبال الرئيس ماكرون له دلالته أيضا، ليس لأسباب فرنكفونية، ولا لأنها «مراعاة خاطر» بل يمكن أن نعدّه خروجا ثقافيا، للتعبير العلامي عن انتمائها إلى بيروت الجريحة، ولأنّ مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية تتطلب أن تمارس شعرية هذا الدور الرئاسي، حيث تستقبل الرؤساء في مطارها العائلي، وحيث تبتسم للزائر، وكأنها تبتسم للرسالة، التي أراد ماكرون إيصالها للبنانيين، ليكونوا معا عند عتبات الواجب والحب والمسؤولية، وأن يدركوا أن الحلول المدنية هي أسلم الحلول، بعيدا عن ذاكرة العنف والعصاب وأوهام «ملوك الطوائف» ولأن ما حدث في المرفأ من خراب يستدعي اعترافا حقيقيا بـ«هزيمة التاريخ» والتعرّي أمام الواقع، بحثا عن حلول وطنية تخصّ التفاصيل، وتفكك روزنامة «أيام التنبلة» وتصديق وعود الواقع، ونضال الشغيلة وأصوات صنّاع الهامش الساحر في ليالي بيروت، حيث يكون الغناء نداء وعشقا وشغفا، وحيث تتخلص من ثياب «الامبراطور البورجوازي» الذي لم ير عريه الطبقي والثقافي.
الرئيسة فيروز أعادت لنا الثقة بالرؤساء، الذين لا يكذبون، ومنحتنا إحساسا بأن الأفق الذي تُغنيه هو أفق المدينة الذي نستعين باسطرلابه حتى لا تتوه بنا الجهات والجبهات…
٭ كاتب عراقي